كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
يتجلّى غياب الدولة على أكثر من صعيد، وأكثرها نفوراً هو عودة تسعير البضائع والمنتجات بالعملة الأجنبية بدلاً من العملة الوطنية. فبعدما كادت تختفي هذه الظاهرة، تحت الضغط والرقابة المشدّدة من قبل وزارة الإقتصاد، عاد قسم كبير من المتاجر ومروّجي الخدمات الى التسعير بالدولار الأميركي علناً، ضاربين بقانونَي حماية المستهلك والنقد والتسليف عرض الحائط، واللذين يمنعان التعامل بغير الليرة اللبنانية.
“يقال في الأمثال الشعبية اللبنانية (الثلم الأعوج من الثور الكبير)، فلماذا نعاقَب إذا أعدنا تسعير بضائعنا بالدولار كما اشتريناها، ولا تُحاسَب الدولة، التي تسعّر الكثير من خدماتها ومنتجاتها، كالإتصالات والدخان، بالدولار؟”، يُجيب أحد أصحاب المحالّ التجارية على سؤال “هل تعلم أن التسعير بغير العملة الوطنية مخالف للقانون؟”.
الأزمة مفروضة
هذا الواقع المستجد، فرضه إنخفاض قيمة صرف العملة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي. وذلك بعد التراجع الواضح في قدرة “المركزي” على دعم الليرة اللبنانية، نتيجة عوامل كثيرة، قد يكون أبرزها: عجز ميزان المدفوعات بأكثر من 15.5 مليار دولار منذ العام 2011، وتراجع إحتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية، والمقدر من وكالة التصنيف الدولية “فيتش” بين 6 و 10 مليارات دولار. فقسم كبير من التجار لا يهدفون الى زيادة هامش أرباحهم، بقدر ما يحرصون على حماية أنفسهم من الخسارة. فشح الدولار وتغير سعر صرفه اليومي شكل الدافع الاساسي للمواطنين من تجار ومستهلكين الى حماية أنفسهم من تقلبات سعر الصرف الخطيرة.
التسعير بالدولار شكلي
وضع الأسعار بالدولار تحت المنتجات أو على واجهات المحال التجارية قد يكون تفصيلاً شكلياً ليس إلا. فمعظم المؤسسات التي تجاهر بالتسعير بالليرة اللبنانية، تعيد احتساب المبلغ النهائي على الصندوق على أساس سعر الدولار، الذي يحدد يومياً في السوق والذي بلغ البارحة، تاريخ إجراء التحقيق 1700 ليرة لبنانية. وعليه فان لا فرق بين التسعير بالدولار أو الليرة، إلا شكل الإختصار الرسمي للعملة (ل.ل أو $).
الإتصالات… الفضيحة الأكبر
مسؤولة قسم مراقبة سلامة الغذاء في “جمعية حماية المستهلك”، ندى نعمة تقول: “الذي يحصل في لبنان هو كالعادة، خرق فاضح للقوانين. وهذا الخرق يتجلى بشكل نافر في موضوع الاتصالات، حيث استحصلت الوزارة قبل سنوات على مرسوم من مجلس الوزراء، يسمح لها بتسعير كل منتجاتها من خطوط مسبقة الدفع، مروراً بالفواتير التي تصدرها وصولاً الى كافة معاملات شراء الخطوط والتجديد والتغيير، بالدولار الأميركي”. جمعية حماية المستهلك التي تتابع القضية منذ زمن، أعادت تفعيلها أخيراً، بعد أن وصل سعر بيع بطاقة التشريج مسبقة الدفع المحددة قيمتها بـ 22 دولاراً أميركياً الى 49 الف ليرة، بعد ان كانت تباع بـ 39 الف ليرة. إلا أن “الجمعية” اصطدمت عند مطالبتها وزارة الإتصالات والجهات المعنية بتعديل المرسوم وإعادة تسعير منتجات وخدمات شركات الخلوي بالليرة اللبنانية، بأن مثل هذا الإجراء يعد مخالفة صارخة للمراسيم والقوانين، و”حلّها إن كانت تحلّ”، تضيف نعمة.
نص بالنص
الهجمة الكبيرة على الإتصالات لمخالفتها القوانين، دفعت بوزير الاتصالات محمد شقير، في خلال التفاوض مع جمعية حماية المستهلك، الى اقتراح أن يجرى تسعير خدمات الخلوي مناصفة بين الليرة والدولار، بعد مراجعته حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، إلا أن “الجمعية” رفضت الاقتراح، وأصرت على تسعير كل الخدمات والمنتجات بالليرة اللبنانية حصراً، كما تنص القوانين.
“الإقتصاد” في سبات
فوضى التسعير وزيادة الأسعار في غالبية المؤسسات بنسب أعلى بكثير من نسبة إنخفاض العملة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، يقابلها إنعدام أي دور جدي وفاعل لوزارة الإقتصاد. وبالرغم من وجود مديرية خاصة لحماية المستهلك يرأسها مدير عام، فإن الأسواق لم تسجل أي زيارة أو متابعة لمراقبة فوضى التسعير والحد من خطورتها، رغم آلاف الشكاوى، التي ترد يومياً من المواطنين.
أين “حماية المستهلك”؟
“المجلس الوطني لحماية المستهلك”، بدوره غائب عن السمع. ولم يُلاحظ في هذه الظروف الإستثنائية قيامه بأي مبادرة تجمع التجار مع المسؤولين في وزارة الإقتصاد، لاتخاذ الإجراءات المناسبة والفعالة للحد من الفوضى التي بدأت تهدد بأزمة معيشية. رهن الثقة
“عندما فُتحت الأسواق المالية والمصارف بعد حوالى أسبوعين من الإقفال، لوحظ ضخ كبير للدولار في الأسواق، الأمر الذي أعاد رفع سعر صرف الليرة مقابل الدولار من 1900 الى حدود 1600 ليرة”، يقول رئيس حركة “المستقلون” رازي الحاج، وبرأيه فإن “هذا دليل على أن جزءاً من الأزمة النقدية والمالية نابع من التوتر السياسي وإرتفاع المخاطر وزيادة المخاوف”.
وبحسب الحاج إن لم يستطع مصرف لبنان والمصارف التجارية تلبية طلبات المستوردين على غرار ما فعلوا مع منتجات النفط والدواء والقمح، فإن هذه الحالة ستستمر نتيجة عدم توفر الدولار، وإضطرار التجار والمستوردين للجوء الى سوق الصرافين حيث يتحدد سعر الدولار على أساس العرض والطلب”.
البرودة السياسية مقابل غليان الشارع، تجعل هذه السلطة تخسر ما بقي من أرصدتها، وتزيد النقمة عليها. فإن كانوا أعجز من إعطاء المواطنين أبسط طلباتهم، بتغيير تسعيرة الخلوي من الدولار الى اللبناني، فهم على الأكيد لن يكونوا المخولين لحمل راية التغيير وتلبية طلبات الثائرين، وحماية الإقتصاد من التقلبات الخطيرة بسعر الصرف. فما يجري اليوم يتعدى قدرة التجار على احتماله ويفرض الإسراع بتشكيل حكومة جديدة والدخول بإصلاحات جذرية على أسس وقواعد جديدة غير تقليدية. وإلا فإن المشكلة ستتدحرج يوماً بعد آخر وتكبر مثل كرة الثلج.