كتب المهندس المالي مهدي قانصو في “الجمهورية”:
يتساءل كثير من اللبنانيين في مجالسهم الخاصة عن القيمة الفعلية لليرة، خصوصاً أصحاب المؤسسات الذين يستوردون المواد الأولية والسلع من خارج لبنان، والنّاس الذين يحدد سعر صرف الليرة قدرتهم الشرائية إلى حدّ بعيد، وصولاً إلى من لديهم التزامات بالعملة الأجنبية لعمّال أجانب أو تحويلات لدراسة وإقامة أفراد عائلاتهم خارج لبنان.
إن سعر صرف العملة تحدّده الأسواق. وكأيّ سلعة أخرى فإن العرض والطلب هو سيد الموقف لتحديد القيمة السوقية. تلعب المصارف المركزية دوراً رئيسياً في ضبط سعر الصرف عبر استعمال الاحتياطات من العملات الصعبة والذهب ومن خلال تحديد قيمة الفائدة بما يتناسب مع استراتيجية الدولة الاقتصادية والمالية.
من حيث المبدأ العام، لدى اعتماد سياسة تثبيت سعر الصرف يتعهّد المصرف المركزي بتغطية جميع عمليات الطلب على الدولار لتثبيت سعر الصرف. وقد شهدنا مؤخراً تغيّراً مهماً في سياسة مصرف لبنان من خلال الدعم الجزئي لسعر الصرف عبر وضع آليات لدعم السلع الأساسية فقط، وهي تشكّل ما مقداره 6 مليارات دولار من أصل العجز التجاري اللبناني المقدّر بـ17 مليار دولار. لذلك بدأنا نشهد أسعار صرف موازية ومختلفة في الأسواق الثانوية عند الصرّافين والمؤسسات التجارية.
تتداول الأسواق توقعات قد تكون أقرب إلى الإشاعات عن إمكانية تدهور الليرة إلى مستويات خيالية غير مستندة على أسس علمية، الأمر الذي قد يثير هلعاً في الأسواق النقدية. من الناحية العلمية، طوّر الخبراء والمهندسون الماليون نظريات حسابية وتحليلية لتوقّع سعر الصرف الفعلي للعملة.
وقد أضحى التسعير المستقبلي لسعر العملة واحداً من أحد أهم الأدوات المالية المتاحة منذ تسعينيات القرن الماضي بعدما أصبح حاجة ملحّة للدول والمؤسسات التي لديها إيرادات والتزامات مستقبلية بعملات أجنبية. وبالتالي، تلجأ الدول والشركات لهندسة تأمينات مالية عبر البنوك التجارية العالمية لتحمي نفسها من تقلّب سعر العملة في المستقبل.
يعتمد الخبراء والمهندسون الماليون 3 طرق لتحديد سعر العملة الفعلية وقيمتها المستقبلية: المستويات التاريخية، نظريات السوق الحسابية، والمقارنات الاقتصادية والمالية.
تشير إحصاءات الأسواق المالية إلى أن 70% من المستثمرين يستخدمون التحليل الفني أو الرسوم البيانية لاتّخاذ قرارات التداول (التداول الفني). وبالتالي إن المستويات التاريخية للعملة تؤثر بشكل كبير على القرار الاستثماري خصوصاً في ما يتعلق بنطاقات التداول وتحديد السعر الأعلى والأدنى. لقد وصل سعر صرف الدولار إلى 2,528 ليرة في أيلول 1992 وقد يكون هذا المستوى خط دفاع أول في حال تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية في الأسواق الثانوية أو في حال فكّ مصرف لبنان الارتباط بالدولار.
وفي نظريات السوق الحسابية، إن المبدأ الأساس لعمليات الهندسة المالية هو أن تسعير الأصول يتمّ بشكل كفوء وفعّال وليس هناك طريقة لتحقيق مكاسب وأرباح دون تحمّل شكل من أشكال المخاطر. على سبيل المثال، إذا وُجد سعران مختلفان لأيّ سلعة مالية في سوقين ماليين فإنّ المستثمرين سيتلقفون الفرصة وبالتالي سيشترون السلعة من السوق الأرخص ويبيعونها فوراً في السوق الثاني ليجنوا الأرباح بدون أيّ مخاطرة وبالتالي سيزيد الطلب في السوق الأول فيرتفع السعر تلقائياً ليصبح مساوياً لسعر الأسواق الأخرى. تُصحّح الأسواق نفسها خلال ثوان أو أجزاء من الثانية خصوصاً في ظلّ وجود تكنولوجيا التداول الحسابي التلقائي.
من هذا المنطلق يتمّ تقييم السعر المستقبلي لصرف العملة عبر الفرق في سعر الفائدة بين البلدين (interest rate parity). إن العملية المالية حيث يستحصل المستثمر على قرض لمدة سنة بالدولار من الولايات المتحدة، يرسل الأموال إلى لبنان ويحوّلها الى الليرة على سعر الصرف 1507.5، يشتري سندات خزينة لبنانية بالليرة، وبعد مرور سنة يأخذ مردود السندات وفوائدها المضمونة (بسبب قدرة مصرف لبنان على طبع العملة)، يحولها الى الدولار، ويسدّد قيمة القرض في الولايات المتحدة.
تقول النظرية أنّ هذه العملية لا تحمل أيّ مخاطر للمستثمر وبالتالي إذا كانت الفائدة 8.5% في الولايات المتحدة و15% في لبنان، تتدهور القيمة المستقبلية الفعلية لليرة ليوازي الدولار 1,600 ليرة. هذه الأرقام هي مثال عن حال الأسواق في الـ1998 بعد اعتماد سياسة تثبيت العملة. لكن بالطبع إن القيمة التخمينية لليرة لم تتحقّق فعلياً في نهاية العام بسبب سياسة مصرف لبنان. هذا لا يُلغي أن قيمة الليرة التخمينية لم تتدهور.
إذا استخدمنا نظرية السوق الحسابية المذكورة أعلاه، المتّبعة عالمياً لتسعير صرف العملة التخمينية، على مدى 22 عاماً منذ تثبيت سعر الصرف في لبنان، تكون النتيجة أن القيمة التخمينية للدولار في نهاية 2019 تساوي 2,700 ليرة لبنانية.
ثالثاً، يعتمد الخبراء الماليون على مقارنات اقتصادية ومالية لاستنباط سيناريوهات ردّ فعل السوق في حالات مماثلة. إن لكلّ سوق مالي خصوصيته وديناميكيته خصوصاً لجهة ارتباطه بالوضع الاقتصادي وبالتالي، يعطي هذا التحليل فكرة عامة عن مدى أو نطاق تأثير العوامل المماثله بدون أن تكون نتائجه قطعيّة. المقارنة الدقيقة بحاجة لبحث طويل لكن بشكل عام في البلدان التي تطول فيها مدّة تثبيت العملة، وتعاني اقتصادياً وتضطر فيها المصارف المركزية لفك الارتباط ينخفض سعر صرف العمله المحلية بمعدل -51% (على سبيل المثال لا الحصر نيجيريا: -45%، تايلاندا: -50%، مصر -53%، فنزويلا: -57%). إذا طبّقنا معدل تغيّر سعر الصرف في حالات مماثلة على الحالة اللبنانية، يتوقع أن يصل سعر صرف الدولار إلى 3,100 ليرة.
تنبئ تصريحات المسؤولين اللبنانيين باستمرار التمسّك بسياسة تثبيت العملة ويبقى السؤال الأهم: ما هي فوائد الحفاظ على سعر الصرف في هذه المرحلة وما هو الثمن الذي يدفعه لبنان في المقابل؟
لقد ذكرت وكالة التصنيف العالمية موديز أن قيمة احتياطات مصرف لبنان من العملات الأجنبية الصالحة للاستعمال لا يتعدى 6 إلى 10 مليارات دولار. كما نشر بنك أوف أميركا ميريل لينش مؤخراً أن الموجودات من احتياطات العملات الأجنبية لمصرف لبنان والمصارف التجارية قد تكفي لحدود 4 أشهر فقط في حال استمرّ النزف من العملات الأجنبية.
في الختام، تشير كلّ التحاليل المالية العلمية وتقارير المنظمات والشركات العالمية أنّه في ظلّ الانكماش الاقتصادي والمالي الحالي، وفي ظلّ ارتفاع تكاليف الاستدانة إلى مستويات تاريخية، قد يحصل فكّ الارتباط الاختياري أو القسري وبالتالي قد يُترجِم السوق القيمة الفعلية لليرة التي تتراوح بين 2,700 و 3,100 للدولار.