كيف «سينْجو» لبنان من «برميل البارود» المتعدّد الفتائل الذي باتت البلاد في سباقٍ «قاتِلٍ» معه على مساريْ المرحلة الجديدة التي «انفجرتْ» مع ثورة 17 أكتوبر وتداعياتها المتدحْرجة على صعيد المشهد السياسي، والواقع المالي – الاقتصادي الذي يزدادُ «دقُّ النفيرِ» حيالَه وسط «صعود أسهم» السيناريوات القاتمة؟
سؤالٌ يبدو الأصعب في بيروت في ظلّ عدم القدرة على استشراف جوابٍ «يُطْفئ» المَخاوف التي تطلّ برأسها من خلف مشهدية «أعراس الساحات» التي انطلقتْ مع الانتفاضة المستمرة منذ 22 يوماً والتي يصطدم «بنك أهدافها» بـ«شبكة المصالح» السياسية والطائفية والمذهبية والحزبية التي لطالما حدّدتْ «قواعد اللعبة» على مستوى السلطة، وأيضاً بالحسابات الإقليمية للاعبين «العابرين للحدود».
ورغم الاقتناع في لبنان بأن الشارعَ نجح في قلْب الطاولة على السلطة في غفلةٍ من كل حسابات أطراف الحُكْم وصولاً إلى اضطرار رئيس الحكومة سعد الحريري لتقديم استقالته قافزاً فوق «الخط الأحمر» الذي كان رسمه «حزب الله» حيال مثل هذه الخطوة، فإنّ غموضاً كبيراً يلفّ مستقبل البلاد التي باتت أشبه بعربة يجرّها حصانان في اتجاهيْن متعاكسين، الأول «تغييري» يريده المتمتْرسون وراء شعار «كلن يعني كلن»، والثاني يحاول احتواء «الثورة» بالإنهاك أو الترغيب أو «زرْع الأفخاخ» بما يحوّلها أشبه بـ«زوبعة في فنجان».
وفيما مَضَتْ الانتفاضةُ أمس ولليوم الثاني على التوالي «تحت جناح» طلاب المدارس والجامعات الذين انتقلوا إلى «مَقاعد قيادة» الثورة على الأرض بتظاهراتٍ في مختلف المناطق، داخل الصروح التربوية وفي الساحات وأمام مؤسسات ومرافق عامة مطالبين بمحاسبة المسؤولين عن «سرقة مستقبلنا» وبحكومة من اختصاصيين مستقلين، بدا أن قطارَ استيلاد الحكومة الجديدة ما زال أسيرَ حساباتٍ متداخلة لأطراف السلطة، رغم دقّة الواقع المالي – الاقتصادي الذي لا يُعرف إلى متى يمكنه أن يستمرّ في مقاومةِ «جاذبيةِ السقوطِ» وأيضاً رغم المَخاطر التي ستترتّب على ترْك البلاد «مُعَلَّقةً» على المستوى الحكومي وما قد يستجرّه ذلك من فوضى مؤسساتية والأهمّ تسعير حال الاستقطاب في الميادين وتالياً وضْع لبنان في فمِ سيناريواتٍ خطيرة قد يُدفع في اتجاهها لاعتباراتٍ «ما فوق محلية» وفق معادلة «ربْط الساحات».
وإذ شكّلتْ زيارةُ الحريري أمس لرئيس الجمهورية ميشال عون أول تواصل مباشر بينهما منذ تقديم الأول استقالته قبل 11 يوماً، لم تظهر مؤشراتٌ إلى حلّ وشيك لأزمة تشكيل الحكومة التي يديرها أطراف السلطة وفق منطق «ما قبل 17 اكتوبر» الذي اشتعلت الثورة في وجهه، وسط رَبْط تحالف عون – «حزب الله» مرحلتيْ التكليف (لرئيس الحكومة) والتأليف من ضمن محاولاتِ «التحكّم والسيطرة» على مسارِ ومآلات الحِراك الشعبي الذي أنْذَرَ بإمكان انتقال الواقع اللبناني إلى مرحلةٍ بلاعبين جدد خارج دائرة «التطويع» المتدرّج الذي أرسى آخر التوازنات في البرلمان الجديد على قاعدة إمساك «حزب الله» وحلفائه بالأكثرية التي وُلدت في رحمها الحكومة المستقيلة.
وعزّزت الأجواء التي توافرت عن لقاء نصف الساعة بين عون والحريري الانطباعَ بأن الملف الحكومي ما زال يحتاج إلى جولات من الأخذ والردّ. وفيما قال رئيس الحكومة المستقيل إن التشاور سيتواصل مع باقي الأفرقاء، نُقل عن مصادر قصر بعبدا أنه «بسبب الأجواء السياسية الضاغطة فإن مرحلة التشاور ستأخذ وقتاً لأننا أمام تشكيل حكومية في ظرف استثنائي»، مؤكدة أن موضوع الاستشارات النيابية المُلْزمة لتكليف رئيس للحكومة «أمر يعود لرئيسِ الجمهورية وحده»، في حين أكدت معلومات أن الجزء الرئيسي من اجتماع بعبدا ركّز على الشق المالي – الاقتصادي البالغ الخطورة.
وتشير آخر المعطيات حول المأزق الحكومي إلى أن المشاورات تراوح في مكانها في ما خص فكرتيْن: الأولى اقترحها رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل وتقوم على أن يسمي الحريري شخصاً غيره لرئاسة الحكومة على أن تضمّ التشكيلة وجوهاً غير سياسية أي «تقنية» ولكن تسمّيها القوى السياسية بما يراعي توازنات البرلمان مع تمثيل الحِراك الشعبي. والثانية يقترحها الثنائي الشيعي رئيس البرلمان نبيه بري و«حزب الله» وتتمحور حول حكومة تكنو – سياسية يعتبر الحزب أنها تقطع الطريق على محاولات إبعاده عن مركز القرار السياسي والارتداد على نتائج الانتخابات النيابية وتالياً خسارته القدرة على مواجهة الهجمة الأميركية التصاعدية (بالعقوبات) بـ«غطاء حكومي ثمين».
وإذ يتم التعاطي مع اقتراح باسيل على أنه أقرب الى «المناورة» أولاً لأن حزب الله لا يحبّذه وثانياً لأنه يرمي الكرة عملياً في ملعب الحريري عبر مساواته برئيس «التيار الحر» (يخرجان معاً) الذي يرفض رئيس الحكومة توزيره في أي تشكيلة بعدما اعتُبر من أكثر الأسماء المستفزة للشارع المنتفض، فإن خيار الحكومة السياسية المطعّمة بتكنوقراط يبقى دونها إضافة إلى عقدة باسيل أن الثوار لن يرضوا بها.
وفي حين تكثر علامات الاستفهام حول المهلة الزمنية التي يعطيها الحريري لنفسه لحسْم خياراته لجهة ترك الباب مفتوحاً أمام إمكان ترؤسه الحكومة الجديدة أم لا، لم تستبعد أوساط سياسية أن يكون زعيم «تيار المستقبل» في مرمى ضغوط متدحْرجة لحمْله على قيادة مركب الخروج من الأزمة ولو عبر ترؤس «حكومة الآخرين» أي بلا أي من حلفائه.