Site icon IMLebanon

غابت المحاسبة في”غابة” الاتصالات

كتبت إيفون أنور صعيبي في “نداء الوطن”:

“في عصرنا الحديث أصبح الرقم، الضرورة المطلقة في كلّ نشاط، أكان ذلك في الحياة الخاصّة أو في القطاع العامّ. فلو استثنينا الوجدانيّات لتبيّن لنا أن الحسابات المكوّنة من أرقام وأعداد هي المَعْلَم الذي يوجّه قراراتنا وأعمالنا فينظّمها. إنّ المخالفات الجسيمة المرتكبة توجب محاكمة من تثبت إدانته من السياسيّين والمسؤولين والموظّفين عن إساءة استعمال المال العامّ وعن سوء إدارته. وعليه، يجب علينا إرساء ثقافة المراقبة والمحاسبة والشفافيّة في تعاطي المال العامّ، والمحاسبة في المجلس النيابيّ وأمام المراجع القضائيّة المختصّة. أمّا المحاسبة الكبرى فهي من قبل الشعب اللبنانيّ”. هذه الكلمات للرئيس العماد ميشال عون في كتاب “الإبراء المستحيل” (2013).

في البداية، لا بدّ من التوقف عند “سلوكيات” أتباع هذه المبادئ من وزراء لم يكفّوا يوماً عن توجيه اتهامات الفساد الى خصومهم السياسيين. ولنبدأ من وزارة الاتصالات التي بدأت تشهد منذ نحو سبع سنوات كمّاً هائلاً من المخالفات في ميادين الانفاق والإدارة والتشغيل والتوظيف.

منحى غير مسبوق

عن الموضوع يوضح مصدر وزاري مطّلع أن “قصة الفساد في قطاع الاتصالات اتخذت منحى غير مسبوق خلال العام 2011 (عهد الوزير السابق والنائب الحالي نقولا الصحناوي) واستمرت مع الوزراء المتعاقبين على نحو مطرد”.

ويضيف المصدر “بدأت الثغرة في العقود المنظمة لعمل الشركتين خلال عهد الوزير جان لوي قرداحي فقد أعطت الوزير الوصي صلاحية الموافقة على المصاريف الاستثمارية مع إعطاء الشركتين المشغلتين حق التصرف بالمصاريف التشغيلية (كالرواتب والمصاريف الروتينية). الا أن الوضع تبدد مع الصحناوي الذي عمد الى إخضاع المصاريف التشغيلية الى سلطة الوزير. تغيير العقد بهذه الطريقة سمح بزيادة الهدر والفساد. هنا كان لا بد من التساؤل عن الحاجة الى الشركات المشغلة بعد أن أصبحت بلا مسؤوليات. وبهذه الطريقة تمكن الوزير من فتح باب للتوظيفات العشوائية التي بلغت ذروتها مع زيادة تخطت 50%. أما مسألة الرعاية والدعم، فكانت مضبوطة ومحددة بحوالى 600 ألف دولار سنوياً لكل شركة كمساهمة لدعم الجمعيات والمؤسسات والمهرجانات قبل ان تتضاعف لتبلغ مليوناً و200 ألف دولار عن كل شركة. كل هذه المصاريف موّلتها الخزينة العامة واستفاد منها الافرقاء المتعاقبون على الوزارة الذين استفادوا من هذا المرفق الحيوي خصوصاً خلال فترة الانتخابات”.

محطات الإرسال

يُثير ملف تلزيم 300 محطة إرسال للاتصالات الجدل، فهو من أكثر الملفات التي طبعت وصاية الصحناوي على وزارة الاتصالات بالسلبية، حينما تمّ التعاقد مع شركة “هواوي” من دون استدراج عروض في مخالفة قانونية صريحة، وذلك لشراء محطات إرسال بمبلغ 85 مليون دولار لتوسيع شبكة “تاتش” بدلاً من القيمة الفعلية البالغة 183 مليون د.أ.، حيثُ أوحى الصحناوي أنّه قام بتوفير مبلغ 98 مليون د.أ. لكن بعد التّدقيق بالعقد يتبيّن أنّ قيمة المحطة الواحدة بلغت 50 ألف د.أ.، ما يعني مجموع 15 مليون د.أ. للمحطات بأكملها، ما يطرح التالي: أين صُرِفَ المبلغ المُتبقّي والبالغ 70 مليوناً؟

عن الموضوع يوضح النائب جهاد الصمد في اتصال مع “نداء الوطن” أن” لدى الحديث عن قطاع الاتصالات لا بدّ من استخدام كلمة سرقة وليس هدراً فما يحصل كناية عن اختلاس مقصود وممنهج للمال العام. بدأت هذه السرقات في القطاع عندما قرر الوزير السابق نقولا الصحناوي تغيير العقد ونقل الكلفة التشغيلية الى عاتق الدولة بدلاً من أن تتحملها الشركات. هكذا بدأت السرقات فالتكاليف التي كانت تبلغ 100 مليون دولار سنوياً لامست منذ ذلك الوقت الـ200 مليون دولار”.

ويضيف الصمد”بعيداً من كل الارقام المذكورة، وتلك التي لا تزال موضوع بحث وتدقيق، وأخرى موثقة بالادلة والمستندات، يتحمل الصحناوي جزءاً كبيراً من النتيجة التي توصلنا اليها اليوم. هناك مبالغ (ملعوب بها) تصل الى مليار دولار، وعلى الوزراء المتعاقبين ان يُحاسبوا على كل هذه الارتكابات. ومع ذلك فان اللجنة الوزارية المؤلفة لاعداد دفتر شروط لمناقصة تلزيم الخلوي تضم من بين أعضائها النائب نقولا الصحناوي، وفي ذلك مخالفة واضحة لكل القواعد والاصول”.

تمديد عقدَي الخلوي

مارس الصحناوي إنفاقاً آخرغير مُجدولٍ على قطاع الخلوي من دون أي رقابة مسبقة أو لاحقة، فقد تمّ صرف مبلغ 550 مليون دولار عام 2012 على هذا القطاع عبر حسم المبلغ من إيراداته من دون تدقيقٍ يُذكر. وهنا يُذكر أنّه بتاريخ 31 كانون الثاني من العام نفسه، اتّخذ مجلس الوزراء قراراً بتمديد عقدي الخلوي لمدّة عام بناءً على اقتراح “اللحظة الأخيرة” للوزير الصحناوي من دون أن يُرفق مع العقد الجديد جدول مقارنة بالفوارق.

في هذا الاطار يوضح مصدر مطلع في القطاع أن الشركتين المشغلتين أوراسكوم وزين كانتا تدفعان مبالغ ضخمة من المال لقاء ضمان التجديد لهما.

ويُذكر أيضاً أن اقتراح الصحناوي الذي حمل مخالفات كبيرة و”قطباً مخفية”، كما وصفها البعض، أحدث بلبلة واسعة آنذاك في الأوساط السياسية والاقتصادية. فقطاع الخلوي لا يخضع لجهة رقابية ويقتصر الدور الرقابي على مجلس الوزراء من خلال القرارات التي يتّخذها. وعمد القرار إلى إلغاء خطّة العمل والموازنة في العقد الجديد، وباتَت المصاريف متحررة من أي رقابة. وهكذا صُرف مبلغ 600 مليون د.أ. من المال العام بدون رقابة بعدما أُلغيت إمكانية الرّجوع إلى مجلس النوّاب للبتّ في قيمة المصاريف الاستثمارية عند وقوع خلاف بين طرفي العقد.

هذا ورفع الصحناوي مساهمة شركتَي الخلوي لهيئة المالكين OSB من 40 ألف د.أ. شهرياً إلى 600 ألف د.أ.، كما قام بفكّ الشبكة الخلوية الثالثة التي كانت جاهزة للعمل بتقنيّة الجيل الثالث، حيثُ قدّم تجهيزاتها بشكل مجّاني لإحدى شركتي الخلوي.

لجنة تحقيق برلمانية!

من جهته، يوضح النائب عماد واكيم ان” لجنة تكنولوجيا المعلومات البرلمانية كوّنت ملفاً مفصلاً منذ 10 سنوات ولغاية اليوم. تقوم الشركات بادارة القطاع نيابة عن الدولة، هنا تطرح قضية التوظيف غير الشرعي التي تمتص الجزء الاكبر من المصاريف بدلاً من ان تخصص لتطوير الشبكات.

اما في ما خص مساءلة الوزير الاسبق نقولا الصحناوي الذي يتحمل الجزء الاكبر من المسؤولية، فنعمل على تقديم طلب لتشكيل لجنة تحقيق برلمانية للتعمق في التحقيق”.

كل هذه المخالفات الصّريحة وغيرها من الارتكابات المالية والادارية في وزارة الاتصالات، والتي تستمر حتى اليوم كافية لمحاسبة كلّ من ارتكب مخالفة بحقّ اللبنانيين والمالية العامّة. تعديل العقد شرّع الابواب أمام دورة جديدة من الفساد غير المسبوق في القطاع. فهل يتحوّل شعار “المحاسبة” و”استرداد الأموال المنهوبة” حكماً مُبرماً أو أنه يبقى كلاماً منبرياً للاستهلاك الشعبوي؟