كتب جوزف طوق في “الجمهورية”:
طنجرة أمي خطّ أحمر… طنجرة أمي هي الخط الأحمر، أو بكلام أدقّ، طنجرة أمي هي أعرض خط أحمر عليك أيتها الجمهورية اللبنانية، وإذا لم تصدّقوا هذا الكلام إسألوا ملعقة الخشب التي لا تفارق جارور أي مطبخ في لبنان، الملعقة الخشب المقدّسة التي حفظنا دورها كفروض الصلاة في منازلنا، واحترمنا وجودها كاحترامنا لهَيبة والدنا، وكم رمينا من أغراضنا وألعابنا وحاجيّاتنا حتى يبقى مكانها مكرّساً لتحريك الأكل خوفاً من أن تنجرح طنجرة لا سمح الله، يوماً ما، ونكون عندها فتحنا أبواب جهنم والدتنا الحنونة، التي بسرعة البرق تحوّل حامية الطناجر الخشبية إلى حامية أخلاقنا، وبالعلامة اسألوا أيدينا وأفخاذنا عن طعم ملعقة الخشب.
نزلنا إلى الطرقات في 17 تشرين الأول وانتفضنا على الفساد والهدر والسرقات، وملأنا الساحات بأصواتنا، لكننا فعليّاً لم نفهم فداحة سياسة أهل السلطة ولم نستوعب مستوى استهتارهم بحقوقنا، إلّا بعدما نزلت أمهاتنا بطناجرهنّ إلى ساحة رياض الصلح يضربن عليها بغضب بملاعق حديدية… وفقط أمام هذا المشهد المهيب الذي يهزّ الأبدان، فهمنا أنّ اللعبة تغيّرت. فإذا كانت الحنونة مستعدّة للتفريق بين ملعقة الخشب والطنجرة، وإذا كانت فعلاً مستعدّة لجرح كعب طنجرتها، فهذا يعني أننا دخلنا في المحظور ونحن أمام قرار كبير قد تمّ اتخاذه على مستوى الأمهات. فإذا كانت البداية بهذا المستوى من التصعيد، إذا كانت البداية بجرح كعب الطنجرة، فالله وحده يعرف ماذا ينتظرنا في الأيام القادمة، والله وحده يعرف ماذا ستكون خطوات أمهاتنا التصعيدية… لكننا تأكّدنا أنّ مع هكذا خطوة، التغيير قادم لا محالة.
أمّي مستعدّة أن ينجرح شعورها، أو تنجرح كرامتها وأمومتها، ومستعدّة أن ينجرح حنانها وصورتها في أعيننا… مستعدّة لكلّ شيء إلّا أن تنجرح طنجرتها.
هل يدرك أهل السلطة اليوم ماذا يعني نزول الأمهات إلى الشوارع بطناجرهنّ؟ هل يعرفون مدى تأثير ذلك على المشهد السوسيولوجي والإنساني؟ هل يستوعبون تَبعات هذه الخطوة على الصعيد السياسي والاقتصادي؟
نحن الذين عشنا معظم أيام حياتنا مع رعب سلامة كعب الطنجرة وقدسية الملعقة الخشب، نتمنّى من كلّ قلوبنا أن يفهم السياسيون معنى هذه الخطوة، ويبادروا سريعاً إلى إيجاد حلول يمكنها أن تُنسي أمهاتنا أنّ طناجرها تجروحت، وإلّا لا يمكننا أن نضمن لكم أن لا تطلق أمهاتنا ثورة الـ»تابروير»، فعندها ستترحّمون على سدوم وعمورة، لأنه بعد «تابروير» أمي الطوفان.
ولا شكّ في أنّ نزول طلاب الجامعات والمدارس للتظاهر في الشوارع أثناء دوام المدرسة في هذا المشهد الوطني الجامع، كان من أوّل تَبعات جرح الطنجرة. فأمي كانت مستعدّة لفِعل أي شيء وتصرّ تحت أي ظرف أن أذهب إلى المدرسة، كانت تحتال على قذائف الـ155 أثناء سقوطها بغزارة، تتذاكى على القنّاص على خطوط التماس، كانت ترسلنا في الأعاصير والطوفانات والزلازل والبراكين إلى المدرسة، كانت ترسلنا حتى لو كانت حرارتنا 47 والانفلونزا تهدّد جهازنا العصبي… لكن أن يصل بها الأمر أن تطلب من أخي في الصباح أن يذهب إلى التظاهرة ويغيب عن المدرسة، مع ضحكة عريضة على وجهها وتَربيتة صارمة على كتفه، فهذا يعني أنّ جيوش العالم كلها لن تستطيع أن تحيدها عن ثورتها ولا أن تخفّف من غضبها أو حتى تخيفها وتُثنيها عن قرارها.
أمّي وأم كل لبناني ولبنانية تؤدي اليوم دوراً يفوق دور الرجل في تغيير المشهد السياسي اللبناني… أمي تحرّك الطنجرة بيمينها وتهزّ عرش السلطة الفاسدة بيسارها.