كتبت مريم سيف الدين في “نداء الوطن”:
من أبرز إنجازات الانتفاضة أنها أعادت إحياء الحركة الطالبية في كافة المناطق اللبنانية. فما كان شبه مستحيل منذ نحو شهر غدا حقيقة منذ أيام قليلة. فاستُنهِضت الحركة الطالبية في الجامعات وفي المدارس حتى. وقد تصل الانتفاضة إلى الأطفال في الحضانات ربما، من يعرف؟ مشاهد التضامن بين الطلاب الذين جابوا الشوارع شكلت مشهداً رائعاً غير مألوف، وأظهرت انهيار حاجز الخوف وجدران التماس التي أعمت اللبناني عن المواطنة. انتفض اذاً الطلاب وتفوقوا في وعيهم على النقابات الغارقة في غيبوبتها، فألغوا إحدى أبرز نتائج الحرب الأهلية التي تمثلت في شل حركة الطلاب وهيمنة الميليشيات على الجامعات. وأعيدت الحركة الطالبية التي يستذكر جيل قديم أيام عزها في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وكأنهم يسترجعون حلماً اعتقدوا أنه ما عاد ممكناً.
بلغت الحركة الطالبية عزها قبل بدء الحرب الأهلية في أواخر الستينات وبداية السبعينات. قبل أن تقضي عليها الحرب، فتموت لعشرات السنوات. لكن انتفاضة 17 تشرين الأول أحيتها كما أحيت الأمل بالتغيير. رموز من تلك المرحلة يراقبون اليوم عودة الحركة التي لطالما ناضلوا لأجلها في شبابهم وسرعان ما أطفأتها الحرب. الدكتور عصام خليفة الذي كان أول رئيس لاتحاد طلاب الجامعة اللبنانية، والنائب السابق الياس عطالله والصحافي بول شاؤول، هم من رموز تلك المرحلة، يروون لـ”نداء الوطن” تجاربهم كطلاب وأساليب احتجاجهم وطرق النضال التي اتبعوها من أجل تحقيق المطالب وإنشاء كليات ومختبرات في الجامعة اللبنانية.
الحركة الطالبية بين الأمس واليوم
يرى النائب السابق الياس عطالله في الحركة الطالبية اليوم صورة زاهية ومتطورة عن الماضي. “فقد تمكن هذا الحراك من تجاوز المذهبية والطائفية وساعد بتوحيد الشعارات، أهميته أنه شكل مفاجأة كبيرة وجعل الطلاب يستعيدون موقعهم. ففي حين كان لكل جامعة طابع فئوي معين بات هناك اليوم هوية عامة وطنية. والطلاب جزء من تحرك وطني يحاول إسقاط الطائفية ورموزها. هكذا كانت الحركة الطالبية في الماضي والتي ترافقت مع الحركة الطالبية في أيار من العام 1968 في فرنسا، وكانت سباقة إلى كسر القيود الطائفية واستطاعت وضع أطر متطورة ديمقراطية لنفسها”. ويرى عطالله أن الطلاب هم اليوم نهر يرفد الحراك الوطني ويجب أن يبقوا منتبهين لعدم تمكين أحد من مصادرة آرائهم. أما العامل في تحركهم، فهو تحطم جدار الخوف. ويلفت عطالله إلى ما يرمز إليه سن هؤلاء الطلاب، وكذلك إلى أهمية المشاركة النسائية وما ترمز إليه كل أبعاد التحرر، “فلا يمكن للبلد ان يكون معاصراً ودولة قانون من دون تحرر المرأة”. وفي تحركات الطلاب اليوم علامات قوة كامنة يشير إليها عطالله، إذ يسيطر الطلاب على الحالة العدائية وعلى الكراهية، وهم عندما يصطدمون بخطأ يغيرونه بسرعة، كما غيروا خطة قطع الطرقات بعد ان كادت تسبب مشكلة.
ويعبّر الدكتور عصام خليفة عن سعادته اليوم بالانخراط بهذه العامية (الانتفاضة) ويرى فيها دليلاً على أن الطلاب مدركون لدورهم في صناعة تاريخ الوطن، وأنهم ليسوا على هامش الوطن. “بسبب ثورة المعلومات الطلاب مطلعون ولديهم الذكاء وإرادة التغيير، وهم يشاركون اليوم بشجاعة وصلابة وإصرار ومتابعة في كل ساحات الوطن وفي أماكن موجعة، بينما كانت التحركات في الماضي تستهدف دوماً مجلسيّ النواب والوزراء او وزارة التربية. باستثناء مرة واحدة توجهنا إلى المطار وكان شعارنا وقف هجرة الأدمغة”.
ما ينقص الحركة الطالبية اليوم هو التنظيم إذاً. ويؤيد مناضلو الحركة الطالبية السابقين صيغة الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية التي كانت قائمة على أيامهم. يشرح بول شاؤول هذه الصيغة والتي تشكلت في العام 1971: قبل الاتحاد لم يكن هناك تنظيم موحد للطلاب في الجامعة، اجتمعت كل الأحزاب في حينها واتفقت على صيغة الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية. وكان كل فرع في الجامعة ينتخب ممثليه في الاتحاد، أما قرار الإضراب فكانت تتخذه اللجنة التنفيذية في الاتحاد. وكان لكل كلية الحق في تقرير الإضراب من أجل مطالبها الخاصة شرط الرجوع إلى الهيئة التي تمنحها الموافقة. ولم يحصل أن اعترض أي من الأحزاب على قرار الهيئة. بل كان الجميع يلتزم بالقرارات وتحولت الوحدة الطالبية إلى وحدة الجامعات وكانت كل الاضرابات تحت سياسة تحسين الجامعة. لم يجرؤ أي حزب في حينها على مخالفة قرارات الللجنة التنفيذية، هذا كان الميثاق غير المكتوب”.
كان لاتحاد الطلاب سلطة كبيرة يحلم طلاب اليوم بنيل مثلها. ووفق شاؤول ففي العام 1971 تمكن الطلاب الذين كان ممثلهم في كلية التربية من طرد 5 أساتذة لعدم كفاءتهم بعد استطلاع استفتاء الطلاب حول أدائهم. “وهو ما حصل لأول مرة بتاريخ الجامعة من بعدها احتللنا الجامعة كلها وطردنا العمداء وتولينا الإدارة من خلال لجنة تنسيق”.
وفي حين أعلنت الجامعة اللبنانية إقرار نظام الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية، والذي يفترض به تنظيم الحركة الطلابية بعد انتخاب الطلاب ممثلين عنهم في الإنتخابات التي من المرجح أن يؤجل موعدها إلى ما بعد التاريخ المحدد في الخامس والعشرين من هذا الشهر. يرى خليفة أن القانون الحالي لا يمنح الحركة الطالبية استقلالية، بل يفرض وصاية على الطلاب وعلى إرادتهم. إذاً فطلاب اليوم أمام تحدٍ كبير لفرض إنشاء اتحاد جديد يمنحهم صلاحيات واسعة ولا يجعلهم تحت وصاية إدارة الجامعة، التي أصبحت بدورها تحت وصاية مجلس الوزراء وبالتالي وصاية السياسيين. خاصة أن نظام الاتحاد بنسخته الجديدة يمنح لمجلس الجامعة ورئيسها صلاحية التدخل في قراراته.
كيف كانت الحركة الطالبية قبل الحرب؟
تزامناً مع التظاهرات الضخمة في أيار من العام 1968 في فرنسا والتي مثل طلاب الجامعات أغلبيتها، بدأت الحركة الطالبية في لبنان تصعيد تحركاتها، ونفذت اعتصامات وتظاهرات وإضرابات. يقول د.خليفة إن الأعوام 68، 69، 70 و71 شهدت تحركات طلابية كبيرة طرحت خلالها قضايا الجامعة والكليات التطبيقية، وعن تأثير التحركات في فرنسا على التحركات الطالبية في لبنان، يقول خليفة: “كانت لدينا مشاكلنا، كنا نقرأ ثورة أيار وتأثرنا بمعنى أن التظاهرات في فرنسا أظهرت الطلاب قوى تغييرية، وكنا نعتقد أننا غداً سنغير كل شيء. لكن الحرب أتت وقهرت الناس”.
يجمع المناضلون الثلاثة في الحركة الطالبية قبل الحرب، أن إنشاء الكليات التطبيقية في الجامعة اللبنانية ومختبراتها وغيرها من المطالب، تحققت جميعها تحت الضغط الذي مارسه الطلاب. ويجمعون كذلك على القول إن الحركة الطلابية كانت تخوّف السلطة.
في تلك الفترة لم تكن الدعوة للتظاهرات وتصويرها ونقل أخبارها بالسهولة التي كانت عليه اليوم. مع ذلك نظم الكثير من التحركات.
يروي عطالله أنهم في العام 68 نظموا الكثير من الاعتصامات، كما نظموا إضراباً عن الطعام لمدة نحو 5 أو 6 أيام أمام وزارة التربية حتى تمكنوا من تحقيق أحد المطالب. “كنا نبتدع اشكالاً من التحركات، عندما يخف عزم الطلاب كنا ننظم التظاهرات الطيارة. أي نرسل طلاباً إلى الأماكن المؤثرة في الاقتصاد اللبناني ونهتف للحرية رفضاً لمنعنا من التظاهر. فنقطع الطرقات ونهتف إلى حين وصول الدرك بذلك نكون قد عرقلنا حركة السير لفترة قبل أن نهرب. فكنا إما ننجح في الهرب، أو نذهب إلى السجن في حال تمكنوا من القبض علينا. سجنّا عدة مرات، في بعض الأحيان كنا نسجن في ثكنة الحلو التي لا يزال إلى اليوم يسجن متظاهرون فيها بعد القبض عليهم. كما كنا أيضاً نخطف إحدى حافلات النقل المشترك، أو ما يعرف بجحش الدولة، بمعنى أن يصعد نحو 40 شخصاً إلى الحافلة ونحدد للسائق إلى أي وجهة يسير، وكنا نعتمد هذا الأسلوب فقط لايصال رسالتنا. وفي تشابه مع حركة اليوم لم نعمد الى التكسير أو الاعتداء على الممتلكات بل كنا نتعرض للضرب بالعصي وجرح الكثير من الطلاب ونقلوا الى المستشفيات. وكنا نهتف: يا عسكر ابنك طالب ارمي سلاحك وطالب، ليكونوا اقل عدوانية اتجاهنا”.
ويروي شاؤول عن تظاهرة المطار المطالبة بوقف هجرة الأدمغة، أن الطلاب حاولوا احتلال المطار فضُربوا وجُرح العشرات منهم. “في رأسي آثار 16 قطبة بعد التعرض للضرب من قبل القوى الأمنية، كانت الاشتباكات تمتد من الأونيسكو الى الحمرا. ولم نعمد في أي من المرات إلى الضرب. واعتمد الطلاب تكتيك المطالبة بالكثير من أجل تحقيق القليل من المطالب فكنا نحدد 15 مطلباً من أجل الحصول على ثلاثة منها، لنعود ونكرر المطالبة من جديد. وقد تعرضنا في العام 68 لأكبر حركة قمع شهدتها الجامعة”.
طلاب اليوم واعون أيضاً
الطالب العشريني سمير سكيني من الطلاب الذين حاولوا منذ قبل الإنتفاضة إعادة إحياء الحركة الطالبية. ووفق سكيني تمكن طلاب في العام الماضي من تشكيل شبكات للتنسيق بين الفروع في الجامعة اللبنانية وبينها وبين بقية الجامعات. أما بالنسبة للإطار الذي يفترض أن ينظم الطلاب يعبر سكيني عن تفاجئهم بالانتفاضة التي سبقت انتخاب أعضاء الاتحاد الذي أقر قانونه حديثاً. ويؤكد سكيني أن الطلاب سيسعون للاستفادة من الانتفاضة للضغط من أجل تحقيق مطالب كانت تعد في السابق خيالية لكنها لم تعد كذلك في ظل الظروف الحالية. كالضغط لتحقيق الاستقلال الإداري والمادي للجامعة اللبنانية، كذلك سيسعون للضغط من أجل طرح اتحاد وطني مستقل.
يملك سكيني اطلاعاً على الفترة التي سبقت ولادته بعشرات السنوات، ووفق مقارنته بين الفترتين بناءً على معرفته، فإن الشارع الطالبي كان أكثر نضجاً في السابق.”كان الطلاب هم من يحركون الشارع أما اليوم فحصل العكس تحرك الشارع ومن ثم تحرك الطلاب. ففي حينها كانت هناك ايديولوجية مسيطرة”. يرى سكيني أن الجو الذي كان سائداً في السابق جو معارض للسلطة ومستقل عنها، وهو ما يحاول اليوم استرجاعه. “حتى عندما كانت الأحزاب ممثلة في اتحاد الطلاب فلم يكن الاتحاد مواليا للسلطة”.
على مستوى الاساتذة يصف سكيني التحرك بالفردي، “بلا شك جزء كبير من الأساتذة هم من ضمن المنظومة الزبائنية ولا أعرف إن كان هذا سبباً كي لا يشاركوا أم إن كان دافعاً لهم لكسر هذه المنظومة. طرح بيننا كطلاب سؤال عن عدم مشاركة الأساتذة وعن غيابهم المنظم وهو أمر مستغرب. فلما لا تنشط مجدداً رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية؟ واليوم كسر حاجز لدى الطلاب، تفاجأنا بالتحرك يوم الخميس في مجمع الحدث. كنا نتمنى أن يبلغ عدد الطلاب المشاركين 200 لكننا تفاجأنا بالعدد الذي لم نتوقعه والذي قدّر بنحو 2000 طالب. لذا عندما تنتهي الانتفاضة لن يكون هناك سلطة لمجالس الطلاب غير الشرعية وغير المنتخبة. أما المشهد الأجمل ففي الثانويات”.