ماذا يجري في لبنان والعراق؟… سؤالٌ فرضتْه وبقوّةٍ حركةُ الشارع الغاضب في بيروت وبغداد وما يُرافِقُها من مقارباتٍ مختلفة ومتناقضة في قراءة هذه الأحداث ودوافعها ومآلها في منطقةٍ أشبه بمستودعٍ لصراعٍ إقليمي ودولي كبير.
وثمة مَن يعتقد أن الدوافعَ التي حرّكت التظاهرات في لبنان والعراق حين نزل الشبان الغاضبون إلى الشوارع للمطالبة بمكافحة الفساد وفرص العمل وبحقوقهم في تأمين الخدمات العامة، شيءٌ، وما قد تؤول إليه تلك التظاهرات في ظلّ الواقع الإقليمي – الدولي، شيءٌ آخَر.
ففي مقاربةٍ لمحور «الممانعة» الأكثر حضوراً في ساحاتٍ مثل لبنان والعراق، ارتيابٌ من محاولاتٍ لتحويل ما يجري منصات ضدّ إيران وحلفائها في المنطقة بعدما أخْفق الخيارُ العسكري في تقويضِ هذا المحور في عدد من الساحات على غرار محاولة الإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد في سورية والحرب على «حزب الله» في لبنان، وكبْح جماحِ حركات المُقاوَمة في قطاع غزة.
وما يجعل محورَ «الممانعة» متوجّساً مما يجري هو إمكان استغلال أعداء إيران للتظاهرات في بيروت وبغداد، للإطاحة بما أنجزه حلفاؤها عبر صناديق الاقتراع في كلا البلدين، بعدما أصبحوا جزءاً قوياً في البرلمان والحكومة، وخصوصاً أن تظاهرات المحتجّين الذين يطالبون بحقوقهم المشروعة التي خطفتْها النخبُ الحاكمة على مر السنين، بدأتْ تتجه نحو الفوضى التي من شأنها ضرْب الاستقرار.
وانطلاقاً من هذه المقاربة، يعقد «محور المقاومة» اجتماعاتٍ مستمرّةً لتقويم الوضع وما يعتبره «تهديداتٍ محتملة»، وعيْنُه على درجة التدخلات الأجنبية ومستواها وتَوَرُّطِها في الشارع لكبْح هذا المحور، وتالياً ليُبنى على الشيء مقتضاه في ملاقاة المرحلة المقبلة وتحدّياتها التي ربما لن تكون سهلة.
ففي لبنان، وبعد ثلاثة أسابيع من الاحتجاجات التي غطّت البلاد، كان التطورُ الأهمّ تقديم رئيس الحكومة سعد الحريري استقالته، الأمر الذي هدأ الشارع لبضعة أيام من دون أن تُرْضي هذه الخطوة المحتجّين المُحْبَطين من أداء الحكومة المستقيلة والبرلمان حيال الإصلاحات المطلوبة لمعالجة الواقع المالي – الاقتصادي المأزوم وبلوغه عتبة الانهيار.
وليس واضحاً حتى الآن إذا كانت حكومة جديدة ستبصر النور في غضون شهر أو حتى في الأشهر المقبلة، بعدما ناقَشَ الحريري مع الأحزاب السياسية المرحلةَ الآتية، معرباً عن رغبته في تشكيل حكومة تكنوقراط هدفُها الحقيقي إزاحة العضو في البرلمان، ورئيس أكبر كتلة نيابية وزير الخارجية جبران باسيل، وهو الأمر الذي لم تتم الاستجابه له، لأن الحريري رئيس حزب ويسْري عليه ما يسْري على باسيل وغيره، وسط معادلة، «إما أن يبقى الجميع وإما أن يخرج الجميع»، قبل أن يُطرح على الحريري إمكان ترؤسه لحكومة مختلطة نصْفها من السياسيين ونصْفها الآخَر من التكنوقراط.
وفي تقدير دوائر على صلة بالمشاورات الجارية لكسْر المأزق والتفاهم على حكومةٍ جديدة أن التعقيدات الدولية والداخلية كثيرة وتؤثّر في نجاح أو فشل أي حكومة مستقبلية، وخصوصاً ان الإدارة الأميركية تنتظر تشكيل تلك الحكومة لفرْض المزيد من العقوبات على حلفاء «حزب الله»، وهي التي تنظر إلى الوزير باسيل صهر رئيس الجمهورية ميشال عون والحليف القوي للحزب، على أنه شخصٌ غير مرغوبٍ بسبب دعمه الواضح لعدو واشنطن المعلَن، أي لـ «حزب الله».
هذا الواقع يدْفع «حزب الله» إلى الإبقاء على حلفائه وتَقاسُم المصير المشترك معهم، وإلى العمل على تعزيز قبْضته على البلاد، وسط سؤالٍ لم يعد من مفرّ منه وهو: هل سيحمل المستقبل حكومةً ناجحةً أم أن البلاد ستتجه نحو فراغٍ سياسي؟
في معاينةِ «محور المقاومة» أن الانتقادات الموجّهة لـ «حزب الله» وإيران، والتي تحضّ على تسليم سلاحه غالباً ما يتم الترويج لها عبر وسائل الإعلام الأجنبية التي تجد في الهجوم على هذا المحور مادةً دسمة وشيّقة.
أما واقعياً في لبنان فإن الأصوات المتعالية ضدّ الحزب في الشارع اللبناني تقتصر على حزب «القوات اللبنانية» ورئيسه سمير جعجع، الحليف القوي للولايات المتحدة ولدول عربية، وهو – أي جعجع – كان أقدم على الطلب من وزرائه الاستقالة من الحكومة في الأيام الأولى من الحِراك الشعبي لينأى بنفسه عن الفساد ويمتطي جواد الإصلاح رغم أنه كان جزءاً من حكوماتٍ سابقة، ويعمل على تحسين ظروف وضْعه السياسي حيال أي مشاركةٍ له في الحكومات المقبلة بالضغط عبر إشراك مناصريه في قطْع الطرق.
وقاربتْ أوساطُ هذا المحور دورَ الجيش وقائده العماد جوزف عون بـ «حساسيةٍ بالغة» نظراً لما انطوى عليه تعاطيه مع قطْع الطرق.
فالعماد عون، القريب من الرئيس عون، كان يرى أنه لا بدّ من قرارٍ سياسي يَصْدُرُ عن مجلس الوزراء باستخدام الجيش لفتْح الطرق، رغم أنه يدرك أن التدبير رقم 3 يتيح له ذلك.
وتتحدث أوساطُ «محور الممانعة» عن ضغوطٍ تَعَرَّضَتْ لها قيادة الجيش من الأميركيين لمنْع استخدام الجيش ضدّ المتظاهرين وإقفالهم الطرق الرئيسية بين الجنوب والشمال مروراً ببيروت ومع البقاع، ما شكّل إحراجاً لرئيس الجمهورية حليف «حزب الله» الذي يشعر بأن ثمة محاولة من واشنطن لتقويض العهد الحالي.
وتذهب هذه الأوساط إلى حدّ القول إن «إغلاق طريق الجنوب المؤدّي إلى بيروت ووادي البقاع ليس بأمر عادي وبريء.
فالهدف هو جلْب حزب الله إلى الشارع وإشعال حربٍ أهلية جديدة وزعزعة الاستقرار لسنوات طويلة مقبلة».
ويبدو أن «حزب الله» مدْرك تماماً لهذا الأمر واحتمالاته وإمكان حصوله وتبعاته السلبية.