كتب عماد مرمل في صحيفة “الجمهورية”:
أخطر ما في مفاوضات التأليف والتكليف أنّها تدور فوق فوهة بركان اقتصادي- مالي، قابل للانفجار في أي لحظة. والمفارقة، أنّ المعنيين بتشكيل الحكومة واختيار رئيسها ما زالوا يتبادلون «عض الاصابع»، على وقع الحمم المتطايرة، في انتظار أن يصرخ أحدهم أولاً، من دون تقدير عواقب الوقت الضائع.
يبدو المشهد السياسي الحالي مربكاً ومتداخلاً الى حد كبير. «حزب الله» وحركة «أمل» يتمسّكان، حتى الآن، ببقاء الرئيس سعد الحريري الذي عرف مقامه فتدلّل، رابطاً العودة الى السرايا الكبيرة بتحقيق طلباته، ومن أبرزها تشكيل حكومة تكنوقراط تستبعد جميع الأسماء الاستفزازية، وتحريره من بعض قيود المرحلة السابقة.
لكن الثنائي الشيعي يصرّ في المقابل على تأليف حكومة تكنو- سياسية تحمي التوازنات التي أفرزتها الانتخابات النيابية وتمنع التوظيف الاميركي لـ«سندات» الحراك في اي مشروع لتغيير المعادلة الداخلية، أي أنه يلحّ على بقاء الحريري في السلطة، انما ليس بشروطه.
ومع أنّ الثنائي الشيعي انزعج من استقالة الحريري المفاجئة وارتاب في الدوافع الكامنة خلفها، غير أنّه قرّر تجاوز ما حصل، وذهب في اتجاه السعي الى إنقاذ الشراكة مع رئيس تيار «المستقبل» انطلاقاً من واقعية سياسية تأخذ في الاعتبار أنّ مواجهة تحدّيات المرحلة الحالية تحتاج الى رئيس حكومة براغماتي، قادر على اكتساب ثقة المجتمع الدولي والتعاون معه، من دون ان ينزلق الى مواجهة ضد «حزب الله»، خصوصاً أنّ الحريري أثبت خلال سنوات من «ربط النزاع» أنّه الأقدر على تطبيق هذه المعادلة.
اما الرئيس ميشال عون، فلم يجد مفراً من أن يصبر على الحريري، الذي كان قد طلب أثناء لقائه الأخير مع رئيس الجمهورية مزيداً من الوقت لاجراء مشاورات إضافية، قبل أن يغادر المنطقة الرمادية ويحسم قراره بالعودة الى رئاسة الحكومة أو الاستغناء عنها، فكان جواب عون: ناطرك..
أساساً، لم يستسغ عون استقالة «الامر الواقع» التي قدّمها الحريري بعد انطلاق الحراك الشعبي، من غير تنسيق مسبق او تحضير للسيناريو اللاحق، ما عزّز اقتناع اوساط قصر بعبدا بأنّ «الحريري هو من النوع الذي لا يتحمّل ضغط الازمات، وعوده لم يشتد بعد، وإن يكن ذلك لا ينفي وجود صفات إيجابية في شخصيته».
وفي انتظار ان يبتّ الحريري أمره في الساعات القليلة المقبلة بعد استكمال مشاوراته الظاهرة والمستترة، فإنّ الانطباع السائد لدى القريبين من عون هو انّ رئيس الحكومة المستقيل «بدا خلال الايام الماضية في حالة من «الأسر الذاتي»، بحث ظهر متردداً في اتخاذ قرار قاطع».
والمفارقة، في رأي هؤلاء، انّ البعض «اندفع نحو اتهام رئيس الجمهورية بإضاعة الوقت والمماطلة في تحديد موعد الاستشارات النيابية الملزمة، في حين أنّ سبب التأخير الحقيقي يعود الى تردّد الحريري واجتراره المهلة تلو الاخرى، ما اضطر عون الى انتظاره لأنّه لا يزال يعطي الافضلية لمواصلة الشراكة معه ولإنعاش التسوية بينهما، في مواجهة المخاطر الاقتصادية والمالية».
وتؤكّد مصادر واسعة الاطلاع في فريق عون، انّ هناك خيارين أمام الحريري، الاول: ان يوافق على إعادة تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، انما من دون الانقلاب على نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة، لأنّ مسؤولي «التيار الوطني الحر» و»حزب الله» وحركة «أمل» «ليسوا في وارد السماح بحصول اي انقلاب من هذا النوع، مع إبدائهم كل الاستعداد لتسهيل مهمته وانجاحها».
والثاني: ان يرفض الحريري تولّي رئاسة الحكومة المقبلة، وعندها سيبرز احتمالان أساسيان، فإما ان يغادر السلطة بالتفاهم مع الآخرين، على قاعدة «الخروج الآمن» والمحمي بضمانات، سواء من خلال تسميته الشخصية البديلة التي تحظى بالقبول الوطني أو عبر مشاركة وزراء من تيار «المستقبل» في الحكومة، وإما ان ينتقل الى المعارضة الصريحة ويرفع أي غطاء عن الحكومة الجديدة، الأمر الذي من شأنه أن يعيد إحياء النعرات المذهبية والاصطفاف بين 8 و14 آذار.
وإذا قرّر الحريري الانكفاء، فانّ عون سيقوم بجس نبض الوسط السنّي ودار الفتوى من أجل محاولة ايجاد تغطية لخيار آخر يكون مقبولاً داخل بيئته، وفي حال تعذَر ذلك، سيصبح كل من رئيس الجمهورية وحركة «امل» و«حزب الله» وحلفائهم امام السيناريو الصعب، لأنّ اختيار رئيس مكلّف من صفوف فريقهم السياسي مؤدّاه تشكيل حكومة «متقوقعة»، سيقاطعها او يعاديها جزء واسع من الخارج والداخل، بذريعة انّها حكومة 8 آذار، مع ما يمكن أن يرتّبه ذلك من تداعيات اقتصادية ومالية وخيمة في مرحلة لا تتحمّل اي مغامرة.
وإذا كانت هناك قوى في فريق 8 آذار تميل الى ربط تخبّط الحريري بضغوط اميركية يتعرّض لها لحضّه على التمسّك بمعادلة التكنوقراط ورفض ترؤس حكومة جديدة تضمّ «حزب الله»، إلّا انّ شخصية وزارية مواكِبة لمخاض التكليف والتأليف تعرب عن اعتقادها أنّ الحسابات الذاتية والسياسية للحريري تؤثر بدورها في رسم اتجاهات موقفه، معتبرة انّه يسعى الى الاستفادة من مفاعيل استقالته وحاجة خصومه اليه قبل حلفائه، كي يعود الى السلطة وفق أفضل الشروط الممكنة، ومن بينها إخراج الاسماء التي يصنّفها مستفزة من الحكومة كالوزير جبران باسيل، وإراحته في الساحة السنّية عبر اقصاء «اللقاء التشاوري» عن التركيبة الوزارية المرتقبة، وإعطائه حرية الحركة سواء على الصعيد الداخلي او على مستوى الساحة الدولية.