كتبت جنى جبور في “نداء الوطن”:
أمام كلّ ما شهده لبنان على مدى عقود من فسادٍ استحكم بالإدارات والمؤسسات العامة وإدارة حكومية غابت عنها النظرة البنّاءة والمتكاملة معطوفةً على محاسبة تشريعية شبه معدومة، حظيَ ملف البيئة على حيّزٍ كبير من مشهديّة تحميل الطبقة السياسية التي حكمت لبنان على مدى 30 عاماً ما آلت إليه الأمور في القطاعات كافّة، خصوصاً بعد تفاقم أزمة النفايات في السنوات الأخيرة من دون إيجاد حلّ يُذكر.
مع تسلّم الوزير فادي جريصاتي وزارة البيئة، عُقِدَت الآمال الكبيرة على نقلة نوعيّة في إدارة القطاع، خصوصاً أنَّ سقف التطلّعات التي رسمها الوزير المنتمي إلى “التيار الوطني الحرّ” كان مرتفعاً جداً، لكن جرت الرّياح بما لا تشتهي السفن أو ربّما بما لم تبتغِه في الأساس.
مجموعة كبيرة من التساؤلات وَسَمَت عهد جريصاتي في البيئة، حيثُ تأرجحت قراراته بين الرّماديّة في الشكل والفضائحيّة في المضمون، تحديداً في ملفّاتٍ أساسيّة ثلاثة وهي النّفايات الصّلبة، المقالع والكسّارات والمحميّات.
في الملف الأوّل، شكّلت خطوة وزير البيئة في تقديم مشروع مغاير لخريطة طريق قطاع البيئة إلى مجلس الوزراء عن ذاك الذي تولّت لجنة وزارية متخصّصة على مدى جلسات متتالية دراسته، خطوة مُفاجئة من حيثُ إنعدام الشفافيّة وعدم الالتزام بأدنى مستويات المسؤولية والمهنيّة.
المشروع الذي تضمّن 25 محطة وثلاث محارق ونال موافقة الحكومة في 27 من شهر آب المنصرم شابَهُ إعتلال جوهري كونه لم يتضمّن جدولاً بيانياً بقدرة المحطات المقترحة، مقارنةً مع التقديرات التي تبين ما إذا كان من حاجة ضرورية للمحارق.
الشُّبُهات حول جدّية الوزير في تطبيق خطّته كَبُرَت مع محاولة جريصاتي الالتفاف عليها عبر الضغط على النائب السابق وليد جنبلاط للقبول بالمحرقة في الجيّة، مقابل التّساهل مع الاجراءات المتّخذة بحقّ معمل إسمنت سبلين، بالتّوازي مع التّمهيد لتوسعة مكب برج حمود تحت ذريعة “الموقت”.
أكمل جريصاتي سياسة ذرّ الرّماد في العيون في ملف المقالع والكسارات، حيثُ لم تشمل، مسودة سياسة الادارة المتكاملة لقطاع محافر الرمل والاتربة والمقالع والكسارات، بما فيها مقالع وكسارات شركات الترابة التي قُدّمت إلى مجلس الوزراء في 21 من شهر آذار المنصرم حيثُ نالت الموافقة، النّصوص القانونيّة والرّقابيّة التي تترافق مع هذه السياسة العامّة.
من الشوائب التي اعترت مخطط جريصاتي عدم إلتزامه تطبيق المخطط التوجيهي النافذ بالمرسوم 1735/2006 لحين إعداد مخطط توجيهي نهائي يُحّدد فيه أماكن استثمار المقالع وطبيعتها والشروط كافّة، بحيثُ اكتفى بإعداد مسودة مخطط توجيهي ومشروع مرسوم يرمي إلى تعديل المرسوم رقم 4860 لا علاقة لهما بالمسودة التي تقدّم بها هو نفسه من الحكومة.
مشروع تعديل المرسوم لم يلحظ مقالع معامل الترابة في خريطة المخطط التوجيهي، وقد استعيض عن ذلك ببندٍ يعطي استثناءً لهذه المعامل للعمل في حال تقيّدها بشروط بيئيّة، في خطوة فاضحة لوضعها تحت رحمة الوزير ومنحه صلاحيتيّ الكيديّة والزبائنيّة السياسيّة في آن، كما تنفيذاً لتوجّه التيّار السياسي للوزير لمنح رخص تشغيل هذه الخدمات لأفرادٍ من البترون على صلة وثيقة بالوزير جبران باسيل، بما أنَّ أصحابها ينتمون لخطّ الوزير السابق سليمان فرنجية، إضافةً إلى أنَّ الشروط التي فُرِضت عليها لم تُميّزها عن تلك التي ارتبطت بالمقالع الواقعة ضمن المخطط التّوجيهي، في مخالفة صريحة لأبسط القواعد البيئية والقانونية.
ظهرت مخالفات وزير “التيار” لشعاراته من جديد في سكوته تحت ذريعة عدم الصّلاحية عن التّرخيص الذي مُنِحَ لصديقه ريمون الحاج من محافظ جبل لبنان، بشكل مخالف لأبسط المعايير البيئية لتكسير 36000 متر مُكعّب من تدوير مخلفات بناء ناتجة عن بلدة بقعتوتة وتحويلها إلى بحص، ومن ثمّ نقلها لاستعمالها في جبّالة الباطون خاصّته في عشقوت، مع العلم أنَّ هذا الرقم هو خياليّ ومخالف للسقف القانوني.
الملف الثالث الذي لم يتردّد الوزير جريصاتي في ممارسة أسوأ إدارة له هو المحميّات، حيثُ رفض ضمّ لائحة المحميّات الطبيعيّة التي ينوي منحها مساهمات مالية وفق المبالغ المرصودة وذلك بعد أن تقدّم من الحكومة في 18 حزيران الماضي على طلب موافقة إستثنائيّة لإصدار قرارات دفع المساهمات للمحميّات الطبيعيّة قبل صدور المرسوم المخصّص لذلك.
وفي خطوة فاضحة قدّم جريصاتي مشروع قانون لإحداث محميّة عندقت في محافظة عكار، أعدّه رئيس البلدية عمر مسعود حيثُ تضمّنت الخريطة جيوباً مُستثناة داخل المنطقة المطلوب حمايتها تعود ملكية عقاراتها لبعض المالكين المنتسبين إلى “التيار الوطني الحر”، مع العلم أنَّ هذه الجيوب تتطابق مع المنطقة المذكورة لناحية مواصفات الواقع البيئي والطبيعي.
القرارات والاجراءات الكارثية التي طبعت عهد الوزير جريصاتي في وزارة البيئة لم تقتصر على الملفات الثلاثة بل تعدّتها إلى الكثير من القضايا البيئية الأخرى، منها على سبيل الاضافة مشروع المرسوم الذي يرمي إلى تواصل الشّاطئ تطبيقاً لأحكام البند 16 من المادّة 11 من القانون رقم 64 والذي تمّ عرضه على مجلس الوزراء في الثالث من الشهر المنصرم، حيثُ تضمّن العديد من المغالطات من تحديد عرض الملك العام، ما يُوحي بتذرّعه بحماية ممرّ بعرض عشرة أمتار، وذلك لفتح الباب أمام استثمار باقي العرض من قبل مُحتلّي الأملاك العامّة البحريّة.
إنَّ شعارات مكافحة الفساد لا تكفي والاتّهامات العشوائية لا تنفع، في دولة استُبيحت فيها الشفافيّة والنّزاهة في أصغر قراراتها. البيئة في موت محتّم فمَن يُحاسب مُرتكبي الجرائم التي نُفّذت وتمّت تغطيتها باسم “بيئة لبنان”؟