كتبت هديل فرفور في “الأخبار”:
«إشكال بين عدد من المتظاهرين وأحد المحامين أمام قصر العدل». يقول الخبر الذي رافق التغطيات الإعلامية للتجمّع العفوي الذي نفّذه، أمس، عشرات المحتجيّن دعماً «لإستقلالية» القضاء، وأدّى إلى توقف العمل في قصر العدل وإقفال نقابة المحامين. وبمعزل عن «ثانوية» تفاصيل خبر كهذا في ظلّ تحرّك لافت يُصيب قلب النظام ويتمثّل بإسترداد القضاء كسلطة مُستقلّة، فإنّ هناك «صورة» رمزية يُرسيها الخبر تتعلّق بتحديد موقع «المُتناحرين» في معركة «إسترداد» القضاء من جهة، وبتقييم أدائهم في تحقيق نتائج المعركة المنشودة.
أثناء الشجار الذي دار بين إحدى المتظاهرات وأحد المحامين، لم ينفك عدد من المحامين عن التذكير بأن إستقلالية القضاء مطلب أساسي وجوهري للمحامين لأنّ تحسين الأداء في القضاء من شأنه أن يُسهّل عمل المحامي بحيث «يستقيم جناحا العدل». إلّا أن الخلاف، وفق هؤلاء، يقع حول «أسلوب» المطالبة. وفيما يعيب بعض المحامين على «أسلوب» قطع الطريق وإقفال قصر العدل كمرفق عام في ظلّ الحاجة الماسّة إليه، ليلتقوا بذلك مع أحد القضاة الذي رأى أثناء حواره مع احدى المتظاهرات أن قصر العدل هو المرفق الاساسي المطلوب فتحه لتنقية إدارات الدولة من الفساد، يضع بعض المُتظاهرين المحامين أمام تساؤل جدّي يتعلّق بدور نقابة المحامين وأدائها كجسم نقابي لمكافحة الواقع المأزوم في القضاء.
من هنا، يبرز نقاشٌ جدّي مرتبط بمطلب تحقيق «إستقلالية» القضاء الذي بات أساسياً ومحوريا في معارك إسقاط مظاهر الفساد في النظام. هذا النقاش يرتبط بتحديد الأطر المطلوبة لتحقيق الإستقلالية من جهة، والبحث عن الدور الفعلي المطلوب لنقابة المحامين في معركة ترتبط بشكل مباشر بعمل المحاماة من جهة أخرى.
ثمّة شبه إجماع على «غياب» دور نقابة المحامين، كجسم نقابي، في دعم الإنتفاضة الشعبية عموماً ومطلب تحقيق إستقلالية القضاء خصوصاً. عدد من المحامين الذين يعملون بشكل فردي في ساحات الإعتصامات (سواء أولئك المتطوعين للدفاع عن المتظاهرين أو أولئك الذين يعملون على شرح الخيارات القانونية المتاحة لتحقيق المطالب) قالوا لـ «الأخبار» أن «النقابة غائبة تماماً عن إستحقاق مصيري كالذي يحصل»، وإنها كان من المفترض أن «تكون السبّاقة ونكون خلفها». ما السبب؟ يقولون إنه ليس خافياً على أحد منظومة المصالح المتبادلة التي نشأت بين عدد من المحامين النافذين وبعض القضاة الفاسدين من جهة، وطغيان الجانب السياسي القائم على المحاصصات في توزيع الادوار على الجانب النقابي المهني من جهة أخرى.
ينطلق هؤلاء من هذه الفكرة لـ«يُشرحّوا» أسباب «نوم» النقابة عن مطلب جوهري، وليُشيروا إلى جو من التململ يسود بين عدد من المحامين ضدّ الأداء النقابي وإلى التوجه نحو الإستفادة من الإحتجاجات الحاصلة لتصويب الأداء.
في المُقابل «نظّر» عدد من المحامين أمس على المتظاهرين في مسألة «الإطار» الذي يجب أن يحمله مطلب تحقيق الإستقلالية وأن آلية المحاسبة والضغط لا يمكن أن تمر عبر إقفال قصر العدل.
وبمعزل عن نقاش جدوى إقفال قصر العدل والسعي إلى توقيف الأعمال فيه، فإنّ الواقع يحتّم البحث عن الآليات الأكثر فعالية وواقعية لتحقيق فارق نوعي في أداء القضاء. كان لافتاً أن يرى عدد من الحقوقيين أنّ شعار تحقيق الإستقلالية يجب ان يصب في خانة تحسين أداء القضاء بصورة جذرية تخرجه من الوضع الراهن، «لأن المعضلة الأساسية تتمثّل بإستقلالية مفرطة لبعض القضاة تسمح لهم بممارسة نوع من التسلط وبناء شبكة علاقات نفعية مع السياسيين وأصحاب النفوذ والاحتكاك بهم ومصادقتهم». ينطلق دعاة هذا الرأي ليُشيروا إلى وجوب قوننة أخلاقيات السلوك القضائية لتكون معروفة وواضحة وملزمة (تتعلق هذه الاخلاقيات باستقلالية القاضي وحياده وتجرده ومنعه من التواصل مع السياسيين ومن التردد إلى بيوتهم وغيرها من الإجراءات المرتبطة بسلوك القاضي)، فضلاً عن ذلك يقتضي أن يصبح نظام المساءلة القضائية أكثر شفافية عبر إلغاء السرية عن المحاكمات المسلكية وعن الأحكام المسلكية الصادرة بحق القضاة.
أما الهدف من هذا القول فهو الميل الى «عقلنة» المطلب وبلورته ضمن شعار «تحسين أداء القضاء»، وذلك إنطلاقا من فكر «تشاؤمي» مرتبط باستبعاد «سقوط» النظام القضائي دفعة واحدة وفتح ملفات الفساد جميعها لانها مرتبطة بالسلطة السياسية جميعها.
هذا الرأي تقابله آراء «مُضادة» أكثر «تفاؤلاً» تنسجم مع حماسة الشارع التي تتمثّل بمطلب تشكيل هيئة قضائية مُستقلّة تُعيّن من قبل الحكومة المُقبلة، توكل إليها مهام فتح ملفات الفساد الكبيرة خصوصا تلك المتعلّقة بالإثراء غير المشروع واسترداد الأموال المنهوبة، على أن «يُغربل» القضاة في ما بعد وفق إجراءات إصلاحية تتخذها وزارة العدل ومختلف الجهات المعنية. فهل ينجح أي من السناريوهين؟