كتب مازن مجوز في “نداء الوطن”:
يوماً بعد يوم، يتخذ الحراك اللبناني زخماً جديداً بتبني وسائل إحتجاج خلاقة، وكان الموعد في الأسبوع الفائت مع “ثورة الطناجر”، حيث انتشرت على شاشات التلفزة وعلى شبكات التواصل، مقاطع فيديو تظهر الثوار من بيروت وضواحيها وطرابلس وصيدا والكثير من المناطق، واقفين على شرفات منازلهم يقرعون الطناجر، إحتجاجاً على أوضاع البلاد المتردية. ألحانٌ ملأت فضاء أزقة لبنان وساحاته، مدغدغةً أصوات الثوار، على إيقاعات الطبل والطبلة والدفوف لإثارة الحماسة لعقد حلقات الدبكة والرقص العفوي، إلى الـ “.D.J” والفلوت “والناي، وليس إنتهاءً بأبواق السيارات وصولاً إلى قرقعة الطناجر. فعفوية الثورة، لم تقف عند الإلتزام بآلات موسيقية تقليدية، فالأولوية هي لإيصال الصوت بمعزل عن الوسائل والآلات، ففي ساحات التظاهر كساحة الشهداء ورياض الصلح وساحة النور في طرابلس، يشارك بائعو الترمس والفول والذرة الثوار في إنتاج الأصوات بضربات ملاعقهم الكبيرة على طناجر السلق، فيما تتكفل “طقطقة” ملاقط الفحم الخاصة بـ”عربات باعة القهوة والنراجيل” بإصدار أنغام معينة وكأنها ملحنة؛ ويتداخل هذا كله بالهتافات والتصفيق، فيخرج الإيقاع ويجمع حشود التظاهر. موسيقى تحمل معاني قلّما عرفها لبنان، وتعكس أساليب جديدة ومبتكرة وتشي بأن شيئاً جديداً ولد.
جيل هدفهُ التغيير ودافعهُ النقمة والغضب من الطبقة الحاكمة بشعاره”كلن يعني كلن” نتيجة الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، فقد وحّدت “الثورة”، كما يحلو للحراك الشعبي تسميتها، اللبنانيين بالشعارات والتطلعات والقناعات بأن “الدين لله والوطن للجميع”.
فالإحتشاد الشبابي اليومي، من طلاب الجامعات والمدارس في الساحات العامة وأمام المؤسسات الرسمية، وقبله الإحتشاد الشعبي العارم أعاد الى ذاكرة اللبنانيين “عامية انطلياس” التي جمعت اللبنانيين بمعظم طوائفهم في 17تموز 1840رفضاً لسلطة الإقطاع والضرائب الجائرة، التي فرضها إبراهيم باشا وحليفه الأمير بشير الشهابي الثاني على اللبنانيين، مع فارق أن ظروف عاميات بيروت وطرابلس والزوق وجل الديب وزحلة وصيدا وصور والنبطية، مختلفة عما سبق من حيث الاسلوب والأهداف والتطلعات والوحدة التي تبدو أصلب من أن تنال منها سموم الفرز الطائفي الحالي.
من المدرجات إلى ساحات الثورات، طبولٌ تدق لتبث الحماس في نفوس الثوار، دقّات متتالية يدقُها أحمد ح. (32 عاماً، طالب جامعي) بعصا خشبية ذات نهاية مطاطية كروية الشكل، وبالقرب منه أسامة ن. (27 عاماً) وهو يقرع الطبلة أمام مبنى وزارة التربية في الاونسكو، محاطين بعشرات الطلاب والتلامذة الذين حضروا استنكاراً لغياب فرص العمل، ظاهرةٌ لا يعاني منها هؤلاء وحسب، بل معظم الطلاب وتلامذة لبنان منذ سنوات طويلة.
وبالعودة إلى “ثورة الطناجر” التي تعد كأحدث أشكال الإحتجاج في لبنان، تداول رواد منصات التواصل الاجتماعي مجموعة من البوستات في الأيام القليلة الماضية: “مراسل الجديد للمتظاهرة: شو مطالبك يا حجة؟ المتظاهرة: عم دور على المغضوب إبني من مبارح أخد الطنجرة وبعدو ما رجعها”، “لا صوت يعلو فوق صوت الطناجر”، “بعد الدق بالطناجر بدنا نكسر صحون.. هيك عملوا باليونان قبل ما تأفلس”، “حدا يبعتلي طنجرة شيشبرك”. فالأكثر دهشة والتي كانت مثار إعجاب الكثيرين في لبنان وخارجه هي أساليب الرقص والغناء والموسيقى، التي استخدمها الثوار لإضفاء روح المرح والدعابة بين الصفوف، ولكسر حالة الملل وضمان بقاء الثوار في الساحات وأمام المؤسسات الرسمية لأكبر فترة ممكنة.
الطناجر من الطبخ إلى آلة إيقاع
وبدأت الفكرة عندما عمد الذين لم يشاركوا في الاعتصام المفتوح عند تقاطع “ايليا” الى الخروج الى شرفات منازلهم والقرع على الطناجر في ذات التوقيت (قرابة الثامنة مساء) في الرابع من الشهر الحالي كإعلانٍ ببدء مرحلة جديدة من الثورة، تمثلت بأسلوب جديد بعد اطلاق العنان لابواق السيارات “الزمامير” تأييداً للحراك الشعبي الاحتجاجي المستمر منذ 17 الشهر الماضي، حتى أن بعض الذين نجحوا بالنزول إلى الشارع حملوا طناجرهم وقرعوا عليها، لتتحول بعدها إلى تقليد يومي يتكرر في الكثير من المدن والبلدات وساحات الثورة.
ويعد قرع الأواني أو الطناجر طقساً شعبياً عالمياً للاحتجاج السلمي، تختلف الروايات بشأن نشأته ينسبه البعض إلى شيلي في العام 1971 خلال حكم سلفادور أليندي، حيث اعتبرت الطناجر الفارغة دليلاً على صعوبة تأمين الطعام، بعدها بات شائعاً مع تولي الديكتاتور أوغستو بينوشيه، وآخرون يقولون إنه انطلق في الجزائر خلال الثورة ضد المستعمر الفرنسي، وفريق ثالث يرده إلى أعوام ما قبل الميلاد. لكن الثابت أنه أكثر انتشاراً في أميركا الجنوبية، خصوصاً في فنزويلا والأرجنتين وشيلي وكولومبيا وأوروغواي والإكوادور وكوبا وبيرو والبرازيل.
وفي هذا السياق يقول الباحث والناقد الموسيقي الياس سحاب في حديث لـ “نداء الوطن”: “الطناجر ليست آلة موسيقية، ولكن في الثورات كالتي نشهدها من الطريف استعمالها كآلة إيقاع، وقد قرأت معلومة منطقية ودقيقة تاريخياً تُفيد بأن عادة ضرب الطناجر في لبنان “دارجة” منذ أن غزا الجراد لبنان في الحرب العالمية الأولى، وكان أجدادنا يجتمعون ويضربون على الطناجر لإبعاد الجراد عن بلداتهم، بفعل الصوت الصادر عنها، وعندها يهرب الجراد”.
وإذ يؤكد أن الطناجر ليست وحيدة، فمؤيدو الثورة يطلقون العنان لأبواق سياراتهم (والتي لا تعد آلة موسيقية) كأنغام موسيقية، وكدليل على دعم التحركات الشبابية ومطالبها -وهذا ما شاهدتهُ في أكثر من منطقة- يرى أن صرخة الطبل أصبحت نبض الثورات، فالطبل والطبلة مثّلتا أحد أبرز اساليب التعبير عن الثورة الشعبية منذ انطلاقتها.
ويُضيف سحاب أنه فيما تعد الطناجر إحدى أدوات الطبخ، باتت اليوم أحد أهم رموز التعبير لدى الثوار، لدى ربات المنازل والشابات، تستخدم وكأنها آلة ايقاع، معتبراً أن في الأمر طرافة، تعكس روح النكتة وهي من أبرز ميزات الثوار “المهضومين” الذين يتقنون السخرية ويبقون عصيّين على الثورة.
حالة ثوران شعبي موسيقي
ولا ينفي أن الطبل والطبلة والدف أدوات موسيقية تستخدم شعبياً للتعبير عن الثورة والحراك، و”الناي” و”الفلوت”، كاشفاً مشاهدته بعض الثوار يعزفون عليها على شاشات التلفزة، ولكنها ليست شائعة كالطبل والطبلة.
ويوضح المؤرخ سحاب أنّنا أمام حالة شعبية وليس حالة موسيقية، يبتكرون أشياء للتعبير عما في دواخلهم وعن مطالبهم ومشاكلهم، فأحيانا يغنون، وأحياناً يرقصون، وأحياناً يبتكرون هتافات شعبية يعطونها نغماً معيناً وكأنها ملحنة، فيما هي غير ملحنة في الحقيقة وهذا يشبه الفولكلور، مشدداً على أنه “لا يمكن أن نتحدث عن الموسيقى بمعناها الحقيقي لدى الشباب المنتفض، بل هناك هتافات شعبية يرافقها عزف على الآلات الموسيقية”، شارحاً “فمنهم من اختار الطبل وآخر الطبلة والدف وحتى “الزمور”، كله للتعبير عن حالة ثوران شعبي عارم، بغض النظر عن الآلات الموسيقية المستخدمة تقليدية كانت أم غير تقليدية”.
وبرأي سحاب- الذي يعد أحد أشهر متتبعي أحوال الموسيقى العربية في القرن العشرين- فإن شباب اليوم يفجر طاقاته الثورية، فمن يجيد العزف على “الفلوت” من الطبيعي أن يعزف عليه، لتتجاوب وتنسجم الناس معه، علماً أنّ هذه الآلة تحتاج الى موسيقي حقيقي.
وإذ يصف ما يحصل بالحراك الشعبي وليس بالحفلة الموسيقية، يفيد بأن المتظاهر لا يحاسب على استعماله الآلات الموسيقية التقليدية وغير التقليدية بمعايير الحفلة الموسيقية، فكل ما يصدر صوتاً هو مشروع آلة موسيقية يمكن استعمالها لإحداث إيقاع؛ لافتاً إلى أن الشعب اللبناني حطّم القواعد والقيود ولا يتبع حالة موسيقية معينة، ولا يلتزم بنهج موسيقي واحد، بل يتبع مشاعره الشعبية، ليعبر عنها بآلات تقليدية حيناً وغير تقليدية حيناً آخر.
دبكة وطبل وطبلة.. ملامح كرنفالية في الثورة اللبنانية
ويخلص سحاب إلى أن ما من جماعة تعيش بلا ايقاع، والدليل القبائل الافريقية البدائية تجتمع على قرع الطبول، ولكي تلتحم الجماعة لا بد من إيقاع صوتي كحدٍ أدنى، وما يحصل مرتبط بثقافة الناس وبموروثهم الشعبي، والتظاهرات واحدة من المناسبات التي لا بد من ابتكار إيقاعاتها وموسيقاها الخاصة.
لقد بات من المسلم به أن هذا اللون من ثقافة الاحتجاج، هو وليد تراكمات أودت باللبنانيين إلى الفقر والجوع والبطالة والفساد المستشري، حال -بالطبع- لا يحسد عليها، فهو ليس وليد تطورات وظروف اليوم، بل يمتد إلى تاريخ طويل، ويعد هذا الحراك الشعبي غير مسبوق في لبنان كونه عم المناطق اللبنانية كافة من دون أن يستثني منطقةً أو طائفةً أو زعيماً، مشهدٌ عكسَ كيف أنتجت ساحات التظاهر أناشيدها وشعاراتها وأغانيها، وخصوصاً موسيقى الراب وموسيقى الشارع، وكلها توحدت لهدفٍ واحدٍ: “ثورة “.
الأغاني الثورية لا تعنيهم
وإنطلاقاً من مرافقة الموسيقى والأغاني الثورية، معظم ثورات العالم وحروبه، فإنّ هذا يذكرنا مثلاً بآلة “البوق” التي نالت ثناء ميكافيللي في كتابه “فن الحرب”على فضائلها، إذ كان بإمكانها أن تخترق ضجيج المعركة.
بدوره يُعرب الناقد الفني والموسيقي بسام ضو في إحدى إطلالاته التلفزيونية في 5 من الحالي عن مفاجأته من هذه الظاهرة الجديدة التي يتابع تطوراتها في لبنان، “فاجأتني وأسعدتني كثيراً، هي لغة الجيل الجديد الشاب، صحيح أننا في لبنان شهدنا فنانين كُثراً غنوا للثورة كمارسيل خليفة وخالد الهبر وأحمد قعبور وجوليا بطرس وغيرهم في مصر الشيخ إمام وغيره، إلا أن هؤلاء الشباب لا يستمعون لهذه الاغاني”.
ويتابع مشيراً إلى أنها باتت أغاني لا تعنيهم ويعتبرونها شعارات غابرة لمرحلة من المراحل، كانت بشكل أو بآخر نوعاً من التنفيس، لم تؤد الى أي مكان، ليستنتج “اليوم ما نسمعه هو أغاني بلغة الشباب، هم الذين يعبّرون، فحتى السُباب حولوه رغم اعتراض البعض على ذلك إلى أغنية، لكن هذه هي لغتهم التي يستخدمونها بشكل شبه يومي، حولوها الى نوع من الفن”.
وهل يُمكن أن يغيب عن بالنا تعليق المؤلف الموسيقي والأستاذ في المعهد الموسيقي الوطني اللبناني جمال أبو الحسن على نشيد “الثورة” الذي أدته مجموعة فنانين من أجل التغيير؟ “جميل كلاماً ولحناً وتمنيت سماع الموسيقى الكلاسيكية في وسط البلد”، أعجبت به، وهو منبثق من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن في حركتها الأخيرة، وتلك الحركة معتمدة في العالم أجمع تعبيراً عن السلام والمحبة، بعد أن كتب كلمات هذا النشيد الشاعر الشاب والكبير مهدي منصور، وأعد لحنه زياد الأحمدية “.
في إحدى تغطياته ليوميات الثورة يقول مراسل قناة الجديد رامز القاضي من ساحة الشهداء في الدفاع عن الاحتفالية في الثورة اللبنانية: “رغم أن الجمهور يرقص ويغني إلا أن ذلك لا يلغي بأنهم متألمون وموجوعون”. لا تعارض بين الآلام والأوجاع والمطالب الشعبية وبين الرقص والغناء، والمثال الأكثر شهرة هو موسيقى البلوز والموسيقى الأفرو أمريكية التي كانت تعبيراً عن آلام العبودية الإفريقية التي فرضتها عليها القوى الاستعمارية والاستغلالية؛ فالفن هو أداة التعبير الأولية لدى أي تجمع بشري.
أمام قصر العدل
ومن الأجواء والمشاهد الفريدة والطريفة التي شهدتها ساحات الثورة اللبنانية، مشاركة عريسان في 6 من الشهر الحالي الثوار نشاطهم في “ساحة ايليا ” في صيدا إحدى أهم ساحات الثوار، حيث حضرا خلال إضاءة شموع بعنوان ثوري “الثورة أنثى “واطلق عليهم الثوار “عرسان الثورة” مباركين لهما، ومشاركين إياهما الفرحة على طريقة الثوار على وقع الطبل والدربكة والزغاريد، وإنتشر فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر الثوار، وهم يحملون العريس وعروسه، اللذين تمايلا على أنغام النشيد الوطني اللبناني، وسط أجواء من الفرحة.
وفي الختام تعد الموسيقى وسيلة من وسائل الاحتجاج على الأوضاع الراهنة أو على الأوضاع غير العادلة، ولا تمثل الموسيقى أداة للضغط السياسي أو التعبير عن المواقف السياسية فقط، بل هي أيضاً أداة ضغط على المجتمعات من أجل نبذ العنصرية والصور النمطية من خلال كلمات تلك الأغاني والموسيقى الجديدة التي يقدمونها بها، وتترجم الثورة نفسها في ساحتي الشهداء ورياض الصلح مثلاً بخليط من أنماط الاحتجاج والتعبير والتظاهر غير المألوفة في العمل “الجماهيري” السياسي، ويمتزج هذا في فضاء موسيقي مجنون يجمع تقليديات الأغاني الثورية مع تراب ميوزيك وتكنو–راب، وهيب هوب، وإيقاعات الموسيقى العربية الجديدة والشبابية، التي تألقت خصوصاً في ساحات الثورة المصرية.