كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
الموت حقّ. وإكرام الميت دفنه. عبارتان تكررتا، في أقل من يومين، على لسان علاء أديب أبو فخر. أهو حدسٌ؟ حاسة سادسة؟ أو هو همسٌ داخلي يسبق الموت بدنو الإنتقال من حياة الى حياة؟ علاء يؤمن بالتقمص. غيره يؤمنون بالحياة بعد الموت وبالقيامة. وكثيرون يثقون أن ما يُنجزُ على هذه الأرض يصمد مدى الدهر.
مات علاء. إستشهد. الثائرُ علاء استشهد. وآخر ما قاله وهو ذاهبٌ الى “الثورة”، الى الأرض، مصطحباً ولده أديب وزوجته لارا وملتحفاً بعلم لبنان: ثوروا يا ثوار… هلموا الى الساحات.
الثائر هرول الى الساحات وهو في طريقِهِ، في مدينة خلدة التي يُحبّ، نزف برصاصة حتى الموت. طفله أديب رآه. لارا، زوجته، حاولت أن تحجب عيني أديب. والإثنان صرخا مع كلّ من صرخوا، من قلب القلب، بأسى لا يضاهيه أسى، لهولِ المشهد: علاء علاء…
غادر علاء. كثير من الحزن. كثير من الدموع. كثير من القلق وكثير من الغضب لكن، من عمقِ كلّ هذه المشاعر، سطع وجه علاء وهو ينظر الى أطفاله الثلاثة: أديب، غنى وعمر، وهو من نادى وطالب وثار طوال 26 يوماً (بين 17 تشرين الأول و12 تشرين الثاني) باسمِ صغاره ومن هم في عمر صغاره.
مأتم علاء هو اليوم، عند الواحدة ظهراً، في الشويفات، ضهور العمروسية، لكن ماذا بعد الساعة الواحدة؟ ماذا بعد دفنِ جثّة علاء؟ هل نطوي صفحة ونفتح أخرى؟
لا، روح علاء ستبقى حاضرة في وجوه مئات آلاف الشباب وفي حناجرهم وفي وميضِ الأمل في عيونهم، كلما لاح إسم لبنان، بأن الغد لا بُدّ أن يكون أفضل.
علاء ثار مع الثائرين. علاء، الراقد على رجاء قيامة لبنان، كان مزوداً بمطالب كثيرة، دوّنها وهتف بها وطمح إليها، فلنرفعها عنه، باسمِهِ، وباسم الثوار الى قصر بعبدا.
فخامة رئيس الجمهورية. حضرة الثوار. علاء أبو فخر غادر ممسكاً بمسودة بعض بنود بناء وطن. فلنقرأ فيها معاً:
-“الله يحمي لبنان والجيش اللبناني الوحيد الذي يحق له حمل السلاح وقادر يحمينا”.
-“حان الوقت لتشكيل منسقيات ضمن نقاط الحراك الممتدة على طول الوطن لبلورة رؤية مشتركة للحراك المطلبي المحقّ ورسم خطاً بيانياً واضحاً للثورة. لا داعي ليكون هناك قائد للثورة بل مجالس قيادية في كل المحافظات والتنسيق لاسقاط النظام”.
-“رصو الصفوف رصو الصفوف. درب النضال طويل طويل”.
-“شعب الثورة لا يُكسر ولا يُهزم. الى النصر المبين”.
-“مثلث خلدة ملتقى الشباب الثائر على الجوع والقهر. مثلث الكرامة”.
-“نحن لسنا قطاعي طرق. نحن أولاد بيوت نريد أن نعيش في وطن يحترم شعبه”.
-“إن المجتمع في كل مؤسساته، ومنها السياسية، ليس في ذاته غاية بل وسيلة الى بناء الإنسان، فالدولة تُقدّس أو تلعن، تخصب مؤسساتها او تعقّم بقدر ما تخدم أو لا تخدم هذا الإنسان”. (إستناداً الى كلام المعلم كمال جنبلاط)
-الساحات تسع الجميع “المهم هلّأ إستمرار التحرك برسم خط بياني لاستمرار الثورة وتحقيق أهدافها وهذا يتحقق بتحديد الأولويات عند الناس وإلا فالفراغ المدوي”.
-“يا أهل السُلطة رح تصيروا سَلطة إذا ما احتكمتوا الى إرادة الشعب”.
-“ما في كبير إلا ربنا وما في وطن إلا لبنان”.
-“لم يترك لنا خيار سوى قطع الطرقات لتنفيذ مطالب الشعب”.
-“مطلب كل الشعب تأمين لقمة العيش”.
-“كفى استفزازاً واستخفافاً بمشاعر وإرادة شعب”.
-“يا نواب كتلة اللقاء الديموقراطي عودوا الى رشدكم عودوا الى الشعب. هذا هو المنطق”.
-“الإقفال يا رفاق بلا رؤية واضحة لا ينفع”.
هذا ما دوّنه علاء أبو فخر بين 17 تشرين الأول و12 تشرين الثاني. الثائر علاء، كما كلّ الثوار الذين سبقوه ورافقوه وسيحملون الرايات غداً، يريدون وطناً. هذه هي البداية. هذا هو المنطلق. ثلاثون عاماً وهم ينادون ويطالبون. يريدون تأمين لقمة العيش. ويريدون من أهل السلطة الإحتكام الى إرادة الشعب.
“كلنا علاء”. هتافٌ ارتفع كثيراً البارحة وأوّل البارحة. ولو كان علاء قادراً أن يجيب لكان صحّح: كلّنا لبنان. علاء، أمين سرّ وكالة داخلية الشويفات في “الحزب الإشتراكي” وعضو بلدية الشويفات، كان واستمرّ تحت خيمة لبنان. ووليد جنبلاط لا بُدّ أن يهمس في رثائه مع كثير كثير من اللبنانيين ما همس به المعلّم كمال جنبلاط في رثاء حسان أبو إسماعيل، شهيد ثورة 1954: لو خسرت ولدي الوحيد لما كنت حزنت كما حزنت على الشهيد.
الحزن على الشهيد، وعلى كلّ الشهداء الأنقياء، لا يوازيه حزن.
علاء أبو فخر. روى أرضنا التي ما عادت تشبع.
قبل يومٍ واحد من اندلاع الثورة، في السادس عشر من تشرين الأوّل، في يوم عيد ميلاد طفل علاء كتب له: “إياك أن تخاف من الزمن أنا حدّك… خليك الأمل بين الناس لا تتكبّر… وحافظ على قيم جدّك”. هذه كانت وصيته الى طفله في عيده. يبدو أن إشارات السماء في حياتِهِ كانت كثيرة.