كتب أحمد محسن في “الاخبار”:
قبل الصورة كان يمكن تقسيم حياة علاء أبو فخر إلى محطات. لكن الصورة لا يمكن تقسيمها. الموت دفعة واحدة يجعل الحياة كلّها وكأنها حدثت دفعةً واحدة. الفيديو ليس واضحاً، الصورة أوضح بكثير. الأم والابن والشهيد. الفيديو للمتفرجين، للآخرين، لمن يشارك بوعي أو من دون وعي، لمن يشارك بأخلاق أو من دونها. الفيديو يتحرّك بسرعة، لكن الحادثة تحتاج إلى وقت طويل، يجب النظر إلى الصورة ببطء، ويجب إشاحة النظر عنها ببطء أيضاً. الفيديو سريع ولكنه لا يجعل تتبع الضحية أمراً مستحيلاً. الصورة ستبقى في مكانها. صورة شخصية. لا علاقة للذين يشاركون الصورة بها. ليست صورتهم. حتى وإن كان حزنهم حادّاً، وشعروا أنهم ماتوا هم أيضاً، فالحقيقة تبقى أن الصورة ليست لهم. وهم لم يموتوا، ويتفرجون على شخص مات باسمهم ولأجلهم. إنها صورة شخصية رغم كل شيء. بمعنى ما، قد تكون صورتهم أيضاً، فالصورة للماضي دائماً. وقد تكون الصورة التي أمامنا صورة علاء أبو فخر وحسين العطار وجورج زريق والآخرين.
الصورة محطة. يقول رولان بارت إن الصورة ليست مجرد عناصر بصرية مجتمعة، بل إنها مادة أنتروبولوجية، قابلة للدراسة وللبحث في طبيعتها وفي أصلها.
نتحدث عن أمّ تغلق عيني ابنها، وعن الأب نفسه، وفي الصورة لم يعد أباً، بل صار شهيداً في لحظة. نتحدّث عن عائلة، بالمعنى السيميائي الدقيق للكلمة. ما يجعل الصورة أقرب إلى ملحمة هو الموت تحديداً. فيها من العناصر ما يجيب على تأملات بارت، أحد أبرز دارسي الصورة الفوتوغرافية. العنف الذي في صورة علاء أبو فخر ما يفيض عن توصيف بارت نفسه، الذي يعتقد أن العلاقة بين الصورة والمسرح، أقرب منها بكثير من العلاقة بين الصورة والسينما. إنها ملحمة.
النهاية دفعة واحدة، والحاضرون قرب النهاية. مثل مسرح في أيامه الأولى، مثل لوحة يمكن لعناصرها مغادرتها إلى خارج زمنها هي الصورة. لكن الزاوية الثانية، التي أُخذت منها الصورة، تجعل كلمات بارت أكثر الحاحاً. نتحدث عن صورة الابن معصوب العينين بدهشة الأم، بمحاولة فوق طاقتها لإنكار الحادثة، كي يتسنّى للابن إنكارها هو أيضاً. وهذا المشهد العنيف أكثر من الدم، والدامي أكثر من جولة العنف طويلة، يجعل الصورة الحقيقية مخبأة تحت عيني الطفل. لن يمكننا أن نرى الصورة الحقيقية مهما فعلنا، الصورة التي أمامنا صورة مجازية لصورة تحدث في قلب الطفل وفي رأسه، صورة تحت عينيه تماماً.
يشارك الناس الصورة بصدق. ولكنهم لا يعرفون بالضرورة أن التجربة غير مجدية في تحديد الأخلاق ومبادئها. تجربة المشاركة، وليس تجربة التضحية. وحده علاء أبو فخر يمكنه أن يتحدث عن التضحية. ما يمكننا أن نتحدث عنه هو المشاركة، مشاركة الصورة وعرضها. وهذا سجال كبير، أي إمكانية العثور على فعل أخلاقي في غاية الصدق. التجريب يبقى تجريباً، والفعل الذي هو هنا المشاركة، تنطبق عليه المقولة الكانطية، عن استحالة تقدير العلاقة بين الفعل والواجب استناداً إلى مبادئ أخلاقية، وإلى ما يسمّيه كانط الامتثال الحاسم للواجب. وأي وقت عن الدوافع الأخلاقية لمشاركة الناس للصورة، أو تمنّعهم عن ذلك، يبقى كلاماً في حدود التجربة، ولا يعبّر في الحالتَين عن موقف أخلاقي. لقد شاركوا الصورة ربما لأنهم انجرفوا، وربما لأنهم اعترضوا. وربما لأنهم يقولون إنهم معنيون أيضاً. لكن الصورة تبقى صورة خاصة بأصحابها. نحن الذين نظرنا، جرّبنا الألم والعاطفة والخوف. جرّبنا أن نكون أخلاقيين وأن تدفعنا أخلاقنا إلى الحزن العميق. لكن الابن رأى صورة مختلفة، ولا يمكننا معرفتها مهما حاولنا.