كتب علي الأمين في “نداء الوطن”:
لعل مشهد “بوسطة الثورة” التي انطلقت من عكار نحو الجنوب مروراً بساحات الانتفاضة على الساحل اللبناني، يكشف أمرين أساسيين، الأول أن “حزب الله” بوصفه “سلطة سلاح الأمر الواقع” لا يريد مسح الآثار الأخيرة للحرب الأهلية، بهدف إيقاظها “غب الطلب” والتهديد بها حيثما تدعو الحاجة، ويعزل جمهوره والواقعين تحت سيطرته عنها وعن رسالتها الوطنية، والثاني كم أنّ التلاقي بين المواطنين مزعج للذين أسروا اللبنانيين في سجون العصبية والطائفية والحزبية، إذ لم تبق تهمة لم توجه للمنظمين لهذه الرحلة؟
صارت “البوسطة” في التعاميم المدسوسة، مشروعاً أميركياً لضرب سلاح المقاومة في الجنوب، باتت هذه البوسطة التي رفعت شعار رسالة سلام الثورة، عملية استعادة للحرب الأهلية، ووصلت الوقاحة الى حدّ نشر بيان مدسوس باسم المنظمين في الوكالة الوطنية للاعلام، وعلى رغم نفي المنظمين أي صلة لهم بالبيان، فان الوكالة لم تعمد إلى حذف البيان أو الاعتذار من المنظمين.
فتحت عنوان “عكار تنتفض والشمال ينتفض” وتحت شعار “يداً بيد من الشمال الى الجنوب” توجهت حافلة ركاب تحمل شباناً وشابات من بلدات عكارية وشمالية ومن مدينة طرابلس وواكبهم خلال مسيرتهم عدد من الناشطين من مختلف المدن والقرى الساحلية… جبيل وبيروت وساحل الاقليم وغيرها من المناطق… في مسيرة متعددة ومتنوعة الانتماءات والمناطق نحو الجنوب للتواصل مع المنتفضين في مدينة صيدا ومن ثم التوجه نحو مدينتي صور والنبطية.
الرسالة التي حملتها بوضوح، التلاقي بين المواطنين، ونبذ الحرب والعنف، من خلال استعادة رمزية “بوسطة عين الرمانة” العام 1975، للقول إن بوسطة 2019 هي حافلة تعبّر عن السلام بين اللبنانيين، لما تجمعه في داخلها من مواطنين لبنانيين من المناطق كافة. أما كيف تفتقت رؤوس البعض عن أنها تذكير واستعادة للحرب الأهلية قبل وصولها الى صيدا واثناء عبورها في منطقة إقليم الخروب؟ فتلك هي الحكاية التي تكشف مدى الاستياء من الانتفاضة اللبنانية على ذيول الحرب، أي تلك التي استمرت منذ نهاية الحرب بسجن اللبنانيين في سجون متلاصقة، يمنع عليهم التلاقي والتفاعل، وجرى التعامل معهم باعتبارهم قطعاناً طائفية ومذهبية لا كمواطنين او كشعب.
تشويه معنى البوسطة
إحالة المشهد الراقي والجميل للحافلة ولرسالتها، الى المؤامرة الأميركية، بالقول، “جرى تمويلها من السفارة الأميركية”، يعكس حجم انعدام الحيلة لدى اطراف السلطة وعسسها، فبدأوا بالتشويه، وتحرك مناصرو “حزب الله” في صيدا ممن يندرجون في “سرايا المقاومة”، باتهام الحافلة بأنها تستهدف سلاح المقاومة، في سبيل احراج المنتفضين في صيدا، على رغم النفي من قبل منظمي مسيرة الحافلة ذلك، لكن هذا التشويه لم يمنع المعتصمين في ساحة “إيليا” في صيدا من الرد على الاتهامات وإعلان استعدادهم لاستقبال الحافلة، حيث ساهم موقف النائب أسامة سعد في لجم النزعة التخوينية، ومحاولة العسس شق صفوف المنتفضين، حيث أصدر بياناً هادئاً أكد فيه ثوابته السياسية، وفي الوقت نفسه أعلن أنه ليس مع منع الحافلة من الدخول الى صيدا.
ما هدف إليه العسس في صيدا، هو منع دخول الحافلة الى النبطية وصور وكفررمان، وهي المحاولة التي تكشف مدى الضيق الحزبي والفئوي من أي تعبير مجتمعي لبناني جامع، والبيان الذي صدر عن منظمي رحلة بوسطة الثورة، كان واضحاً لجهة النصيحة التي تلقوها من الجيش لعدم اكمال المسيرة نحو الجنوب، بسبب ما يمكن ان يتعرضوا له من قبل بعض الموتورين. ومن يمسك بالقرار في الجنوب، يدرك من هم الذين يمنعون ويسمحون في هذه المنطقة.العزلة التي يعمد حزب الله” على ترسيخها في بيئته، مستوحياً رواية غابريال غارسيا ماركيز “مئة عام من العزلة” ويسعى لجعلها مئة عام وعام، هي ما تمنعه من السماح لأي مظهر تلاقٍ من خارج تنظيمه وادارته ان يتحقق، ولعل قيام بعض الموتورين بتمزيق صور شهيدي الثورة حسين العطار وعلاء ابو فخر في بلدة عيترون الحدودية امس الأحد، يفضح الوجهة التي يريدها “حزب الله” في مناطق نفوذه، فهو انتقل من مرحلة ترسيخ الدويلة داخل الدولة، الى مرحلة عزل المجتمع الشيعي عن المجتمع اللبناني، من خلال الحرص المفتعل على حماية المقاومة الذي يؤدي إلى إساءة استعمال هذا العنوان، عبر إلغاء الحياة الديموقراطية وتخريب الحياة السياسية، إضافة إلى اعتماد عنوان المقاومة مادة “تأليه” للأشخاص وأداة استبداد لقمع كل مخالف وتخوين كل حريص على تصويب وجهة وخيارات المقاومة.
عزل المجتمع الشيعي عن همومه الوطنية، ومن الانخراط في ترسيخ الهوية الوطنية، هو أسلوب لم يعد مجدياً، بل مدمراً للجماعة الشيعية، فهذا الارتياب من كل ما تحمله الانتفاضة اللبنانية هو وقوف في وجه إرادة شعب يختزن روحاً جديدة ومشرقة، عابرة للطوائف، جاهزة للخروج من طائفيتها، وصنع مصيرها، وإنتاج ديموقراطية حقيقية لم نشهد مثلها سابقاً.
ما تقترحه الانتفاضة اللبنانية وحملته “بوسطة الثورة” كرسالة سلام هو إصرار على الاندماج في النسيج المجتمعي لا تضخيم هوية ترتاب بكل من حولها.