كتب كلير شكر في صحيفة “نداء الوطن”:
لا شكّ في أنّ نيران “انتفاضة 17 تشرين” أتت على المشهد اللبناني برمّته: الانتظام السياسي، حكومة الرئيس سعد الحريري التوافقية، الاستقرار المالي الهشّ… أسقطت “قدسية” رموز، وانتزعت مفاتيح بعض الزعامات التقليدية، وأطاحت بدربها تسوية رئاسية صار عمرها ثلاث سنوات، لكنها بقيت هشّة وكأنها ابنة ثلاث ساعات! حتى قواعد التكليف والتأليف كان لها نصيبها من شظايا “الانهيار” الذي ضرب الساحة اللبنانية منذ نحو شهر.
بنتيجته، دخل الوزير السابق محمد الصفدي كتاب غينيس للأرقام القياسية كأسرع مرشح لرئاسة الحكومة تعرّضاً للانتقادات.
-لم يحظ الرجل حتى بترف أن ينام رئيساً للحكومة، واذ به يخرج من “النادي الذهبي” بعد دقائق معدودة من دخوله، ولو اسمياً، بفعل زلزال الشارع الذي لاحقت هزّاته الارتدادية سيرته الذاتية حتى حروفها الأخيرة.
وقبيل ساعات من استلام الصفدي “أجندة الشارع”، كما رأى في بيان سحب اسمه من التداول الحكومي، كان الاشتباك بين بيت الوسط وميرنا الشالوحي، يُلقّم بأولى ذخائره بعدما أخرج باسيل الحريريين من عقالهم معلناً يوم الجمعة بما يشبه “الفرمان الملكي” أنّ الإستشارات ستجرى يوم الإثنين والصفدي سيشكّل الحكومة، محدداً مساره عبر تأكيده أنّه “لن نُمثّل بسياسيّين فيها”.
لم يهضم بيت الوسط “الفتوى الباسيلية” التي هبطت عليهم كالصاعقة، فسارع مقرّبون من الحريري إلى التعليق قولاً: “رجعت حليمة لعادتها القديمة”. وفي كلام غير مسبوق في سجلّ التخاطب الثنائي، رأى هؤلاء أنهم “إذا أراد فعلاً أن يقدم خدمة للعهد ورئاسة الجمهورية ينبغي أن يطلب إجازة عن الكلام”، وذلك رداً على ما اعتبروه “مصادرة” لموقعي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء، “الناتج عن دور ذهب منه هباءً بين أرجل المتظاهرين”.
صبيحة يوم الأحد، كانت الجردة السياسية على الضفة العونية تحمّل رئيس الحكومة المستقيلة مسؤولية فشل مشروع ترئيس الصفدي: “الحريري تنصّل من التزاماته” تجاه الوزير الطرابلسي، وأطلق العنان لراجمات البيت السني، فالصفدي كان يريد احتضانه من الحريري تحت جناحي دار الفتوى ومعها رؤساء الحكومات السابقون.
وعلى المنوال نفسه، كان النواب العونيون يغزلون تغريداتهم الصباحية. النائب سيزار أبي خليل يقول: “اذا حدا مفكّر انّو التعطيل الحكومي بيخدمو يتذكّر بس انو الموجة لبتجيبك ع الشط هي ذاتها بلحظة بتبلعك خصوصي اذا بعدك مبتدئ بالسباحة والمدرّب همّو بحالو”. أما النائب حكمت ديب فاعتبر أنّ “هناك مماطلة وتردداً من قبل الحريري حتى يعود رئيساً للحكومة ومعه رضى الشارع بطريقة من الطرق”. فيما رأى النائب سيمون أبي رميا أنّ “رفض المستقبل دليل على أن الحريري يراهن على أن يكون هو رئيس الحكومة القادم، لكنه يحاول تحسين شروط تشكيل الحكومة بالطرق التي يتمناها”.
“الهجمة البرتقالية” دفعت مكتب الحريري إلى تسطير مطالعة دفاعية أشار فيها إلى أنّ “باسيل هو من اقترح وبإصرار مرتين اسم الصفدي”، متهماً “التيار الوطني الحر” باعتماد “سياسة المناورة والتسريبات ومحاولة تسجيل النقاط” معتبراً أنّها “سياسة غير مسؤولة مقارنة بالأزمة الوطنية الكبرى التي يجتازها بلدنا، وهو لو قام بمراجعة حقيقية لكان كف عن انتهاج مثل هذه السياسة عديمة المسؤولية ومحاولاته المتكررة للتسلل الى التشكيلات الحكومية، ولكانت الحكومة قد تشكلت”.
من جديد، عاد الصفدي إلى حلبة السجال ليتهم وعلى نحو مباشر الحريري بالتنكّر لوعود قطعها “لأسباب ما زلت أجهلها، فما كان منّي إلاّ أن أعلنت انسحابي”.
هكذا، سارعت اللجنة المركزية للإعلام في “التيار الوطني الحر” إلى الردّ على بيان الحريري العالي اللهجة، بتعابير لا تقلّ قساوة، معتبرة أنّ “سياسة الحريري لا تقوم فقط على مبدأ “أنا أو لا أحد” على رأس الحكومة بل زاد عليها مبدأً آخر وهو “أنا ولا أحد” غيري في الحكومة، وذلك بدليل إصراره على أن يترأس هو حكومة الاختصاصيين”، مستندة إلى “شهادة الوزير الصفدي المقتضبة واللائقة، داعية رئيس الحكومة المستقيلة “للتعالي عن أي خصام سياسي خاصةً وأنّه يفتعله معنا على قاعدة “ضربني وبكى، سبقني واشتكى”، فقد “فعل فعلته وسارع الى الاعلام”.
اذاً، هي الحرب على أشدّها على محور بيت الوسط – ميرنا الشالوحي، لتنضح بما تجمّع في الإناء منذ انطلاق الحراك الشعبي. وما زجل الساعات الأخيرة إلا النقطة التي طافت في كوب الاتهامات المتبادلة بين الحريري وباسيل منذ أن شعر الأخير أنّه “كبش محرقة” الشارع بينما تمكن الأول من انقاذ نفسه من معمودية النار، ليتحوّل بين ليلة وضحاها من أحد “مطلوبي الثورة” إلى منقذ “التفليسة” المالية.
يدرك الحريري أنّ لعبة الشارع التي عاد ودخلها كشريك مضارب فرضته من جديد لاعباً مؤثراً فيما حوّله الانهيار المالي إلى حاجة ماسة لبقية المكونات وتحديداً الثنائي الشيعي. وهو يعرف تماماً أنّ كرة نار التدهور الاقتصادي لن تجد الكثير من المتحمسين أو المتجرئين على الإمساك بها. لذا يمارس معركة مع خصومه، فارضاً شروطه التي تسمح له بإطلاق يديه في أي حكومة سيترأسها.
ولهذا تؤكد مصادر قوى الثامن من آذار أنّ الثنائي الشيعي حاول تسهيل مهمة الحريري قدر الإمكان لكنه فوجئ بالتفاهم الذي أبرم بين رئيس الحكومة المستقيلة وباسيل حول اسم الصفدي. وإلى الآن لا تزال المعادلة التي يفرضها رئيس “التيار الوطني الحر” واحدة من العقد غير المرئية والتي تحول دون اتمام دفتر شروط الحريري، والتي تقوم على أساس: معاً إلى الحكومة… أو معاً خارجها.