في الاول من تشرين الاول الماضي، خرج عشرات آلاف العراقيين الى وسط بغداد، في أكبر تظاهرات احتجاج ضد الحكومة منذ سقوط الرئيس السابق صدام حسين، وطالبوا باجتثاث النخبة السياسية، المتهمة بالفساد وتردي الاوضاع المعيشية وتلقي الاوامر من القوى الأجنبية، وما زالوا.
وفي 17 الجاري ايضا، انتفض اللبنانيون في ثورة تاريخية بلغت شهرها الاول السبت الماضي ضد الطبقة السياسية الحاكمة من دون استثناء رافعة شعارات تطالب برحيلهم تختصرها عبارة “كلن يعني كلن” على خلفية ملفات فساد تورطوا فيها وما زالوا منذ ثلاثين عاما، وشكلت فرض الضريبة على المكالمات الهاتفية عبر تطبيق واتساب النقطة التي فاض بها كأس صبرهم بعد تردي الاوضاع الاقتصادية وبلوغها حافة الانهيار.
وفي ايران وفي 15 تشرين الثاني، عاد الشارع الى الاحتجاج مجددا ضد قرار رفع أسعار الوقود بنسبة خمسين في المئة، في ضوء أزمة معيشية وضائقة اقتصادية بسبب العقوبات الاميركية المفروضة على طهران بفعل الملف النووي وسياسات إيران الخارجيّة، وقد توسعت رقعتها مع انتشارها في أكثر من 100 مدينة، على رغم محاولات النظام ترهيب المواطنين وتهديدهم وقد أججت تصريحات المرشد الاعلى علي خامنئي امس موجة الغضب الشعبي حينما أكد إصراره على رفع سعر البنزين بنسبة خمسين إلى 300 في المئة، محملا “الأعداء” مسؤولية أعمال التخريب، فيما يبدو أن “الأعداء الحقيقيين” باتوا اليوم ملايين المتظاهرين الذين يجوبون شوارع المدن والمحافظات الإيرانية كلها.
المشهد الثلاثي الاضلع المتمدد في البلدان حيث للجمهورية الايرانية الكلمة والقرار من خلال تحكمها بمواقع السلطة، تحاول ايران اسباغه بالطابع السياسي لنزع مسؤولية الفساد عمن يوالونها الولاء، واتهام الخارج لا سيما الولايات المتحدة الاميركية والمحور الغربي بالتدخل في شؤون الدول الثلاث وتحريض المواطنين على الثورة وتأليبهم ضد السلطات، بتقديم الدعم المادي والمعنوي من اجل كسر القوى السياسية والحزبية التي تنتمي الى الممانعة والمقاومة من الحشد الشعبي الى حزب الله وصولا الى الحرس الثوري.
محاولة قلب الصورة هذه لاشاحة النظر عن حقيقة الثورات الشعبية، تعتبرها مصادر سيادية عبر “المركزية” ساقطة سلفاً، وتقول صحيح ان اطاحة ايران ونفوذها العسكري من الدول العربية عموما ولبنان والعراق خصوصا تشكل مصلحة لواشنطن التي تخوض حربا سياسية شعواء مع الجمهورية الايرانية منذ وصول الادارة الاميركية الجديدة بزعامة الرئيس دونالد ترامب، لكنّ الصحيح ايضا ان الساحات الثلاث توحدها معاناة اجتماعية وشعبية مسؤولة عنها السلطات الحاكمة بامتياز. وتسأل لمَ لم تنفجر الثورة في لبنان قبل هذا التاريخ، ومن المسؤول عن حقن اللبنانيين بالضرائب المتتالية وتدهور اوضاعهم الاقتصادية في شكل غير مسبوق وصولا الى الانفجار؟ ومن رفع اسعار النفط في ايران بنسبة خمسين الى ثلاثمئة في المئة ويلوّح بمزيد من الارتفاع دافعا الايرانيين الى الشوارع في خطوة ليست الاولى من نوعها اذ سبقتها موجات احتجاج عارمة قمعتها السلطات الايرانية بالقوة على غرار ما يحصل راهنا؟ ولماذا يتظاهر العراقيون ضد نظامهم الفاسد الذي تُسيّره طهران بأدواتها العسكرية والسياسية في بغداد؟
وتردف اذا كان من مسؤول عن الثورات الشعبية اولا وآخرا فهي الانظمة الموالية لطهران التي تنتهج سياسات تضعها تحت نير العقوبات غير آبهة بمصائر شعوبها. وتضيف: غير صحيح ان دول الغرب تحيك مؤامرات الثورات، وتتدخل بالمباشر لدعمها ، فهي لو كانت كذلك، لتمكنت مثلا حينما عمّ الفراغ الرئاسي لبنان على مدى عامين ونصف العام من فرض مرشح رئاسي غير من اراده حزب الله، ولشكّل سلطة موالية بالكامل لمحوره عوض ترك الاوضاع تجنح في اتجاه محور الممانعة، وكما في لبنان كذلك في العراق والامثلة اكثر من ان تحصى. وتختم: لم تُفجر الثورات الشعبية سوى القراءات السياسية الخاطئة لطبيعة المشهد الاقتصادي والاجتماعي والواقع المعيشي في الدول الواقعة تحت “السطوة” الايرانية والكلمة والقرار هذه المرة على الارجح للشعب والشارع لا غير.