كتب رضوان مرتضى في “الاخبار”:
لن يُسجن سياسي فاسد أو يُستعاد مال منهوب إذا لم يبدأ الإصلاح في سلك القضاء الذي نخر الفساد فيه، حتى بات بعض القضاة «موظفين» لدى أصحاب سوابق، يلوون عنق العدالة، فيسجنون بريئاً ويبرّئون مداناً ويتلاعبون بمصائر الناس، مقابل تذكرة سفر أو علبة سيجار أو علاقة جنسية!
ضجّت قصور العدل، قبل أشهر، بملف الفساد القضائي. يومها، أوقف قضاة عن العمل وأُحيلوا على المجلس التأديبي، وتفاوتت الأحكام بحقهم بين الصرف من الخدمة وكسر الدرجة والبراءة. بدأت القصة مع توقيف فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي عدداً من «سماسرة القضاء» ممن وُجدت على هواتفهم رسائل وتسجيلات صوتية تبيّن حجم الاهتراء الذي يأكل الجسم القضائي، وأظهرت التحقيقات معهم مدى تغلغل الفساد في جسم العدالة. في ما يلي، لن نأتي هنا على ذكر اسم أي من القضاة باعتبار أنّ الإفادات أولية والحكم لم يصدر بعد، لكن سنسرد بعض الارتكابات التي اقترفها «السماسرة»، و«الخدمات» التي أسدوها لبعض القضاة.
«رجل الأعمال» الموقوف سالم ع. أحد أبرز «السماسرة» المتورطين في هذا الملف. إلى وقت قريب، كان يوصف بأنه قادر على «فك مشنوق» نظراً إلى حظوته بين من يُفترض أن يحكموا بالعدل. ابن بلدة رحبة العكارية مثال لـ«اللبناني الحربوق»: فهِم التركيبة، وأدرك أن كسب القضاة أقصر الطرق إلى الوجاهة، على أمل أن يُصبح نائباً عن الأمة. في سجلّه عشرون حُكماً قضائياً تراوح عقوبتها بين السجن والغرامة المالية، وقضايا لم يحكم فيها بعد، من شيك بلا رصيد مروراً بالاحتيال والسرقة والتهديد والإدلاء بشهادة زور، إلى تعاطي الربا والمخدرات وتبييض الأموال وتزوير علامات تجارية. كل ذلك لم يحل دون أن يصبح الرجل مقرّباً من عشرات القضاة الذين استضافهم إلى موائده ونشر صورهم معه على فايسبوك، ومن بينهم قاضٍ يشغل أحد أهم المراكز القضائية في بعبدا. حتى بات حائط مبكى من يقصدونه طمعاً بواسطة لدى القضاة الذين تراوحت «خدماته» لهم بين دفع ثمن تذكرة طائرة وحجزٍ فندقي وهدايا عينية ونقدية ودعوات لزيارة كازينوات خارج لبنان، وصولاً إلى تأمين فتيات هوى!
في التحقيقات، يروي سالم ع. أنه كان يعمل في صرف الشيكات بصورة فورية لقاء عمولة (مرابٍ)، كما كان يدير ملاهي ليلية. معرفته بأحد القضاة قبل 12 عاماً فتحت الباب أمامه إلى هذا العالم، لتتسع دائرة معارفه في السلك القضائي ويحصّل نفوذاً مكّنه من أن يتحول الى مرجع لمن يريد تسوية قضية عالقة، وإخراج سجين أو سجن بريء. وهو تمكّن، على سبيل المثال، مقابل 40 ألف دولار، من إصدار حكم لمصلحته ضد امرأة ربطته بها علاقة قبل أن يتهمها بالخيانة. كما دفع 30 ألف دولار لصدور حكم استئناف بالبراءة لمصلحته بعد صدور حكم بسجنه ثلاث سنوات على خلفية بيع عقار وهمي عام 2013. وقد ساعده في هذه القضية مستشار لأحد قادة الأجهزة الأمنية أهداه لاحقاً سيارة بقيمة ٢٥ ألف دولار.
ذاع صيت سالم في السلك القضائي، حتى بات القضاة يتقرّبون منه! وبعد تعيين أحد المقربين منه في مركز مهم، جدّد له مكتبه في بعبدا، وسرت شائعة تُفيد بأن سالم يقف وراء تعيينه في هذا المركز! وقد عُثر في هاتفه وفي بريده الإلكتروني على صور بطاقات VIP خاصة بالقاضي وبعائلته للدخول إلى منتجع الرمال، وعلى صور شيكات مصرفية باسم القاضي نفسه، وقد برّر ذلك بأن الشيكات هي تقسيط لدين بقيمة ١٣٠ ألف دولار استدانها من والدة زوجة القاضي.
كذلك عُثر في هاتف الموقوف على محادثة بينه وبين قاض آخر يبلغ فيها الأخير بأنه سيُجدد اشتراك شاليه له في طبرجا. وفي التحقيقات، أقرّ سالم بأنّه كان يُحضر فتيات ليل للقاضي، وبأنهما سافرا معاً إلى بيلاروسيا للنقاهة. وفي سجل «السمسار» أيضاً تقديم تذكرتَي سفر الى قبرص على نفقته لأحد القضاة (حالت وساطة سياسية دون توقيفه) وصديقته، إضافة إلى سهرات في الكازينوات. كما عُثر في حوزته على بطاقات سفر وحجوزات فندقية لعدد من القضاة الآخرين قال إنهم كانوا يطلبون منه حجز تذاكر وفنادق في فرنسا وإسبانيا. كما أقر بأنه ساهم بمبلغ ٢٠ ألف دولار في حفل زفاف ابن أحد رؤساء مجلس القضاء الأعلى السابقين.
الهدايا التي كان يغدق بها سالم ع. على القضاة كانت متنوعة: سلاسل ذهبية أو ليرات ذهبية لزوجاتهم، علب سيجار كوبي فاخر من نوع «كوهيبا» (ثمن العلبة نحو 2000 دولار)، دعوات الى الملاهي الليلية، بطاقات سفر… فيما كان أحد القضاة يتقاضى منه دورياً مبالغ تراوح بين ٣ آلاف دولار و١٥ ألفاً مقابل «استشارات قانونية». وأفاد بأنه كان يُقسّم القضاة بين مهمّين وأقل أهمية، وتبعاً لذلك كان يقسّم الهدايا بصورة، «لإبقاء العلاقة بيني وبينهم وطيدة ليتسنى لي طلب الخدمات لأنّني أردت أن أكون مرجعية خدماتية. وقد لبيت آلاف الخدمات التي لا أستطيع إحصاءها. لم أكن أتقاضى مالاً من هؤلاء لنفسي لأنني أطمح الى أن أتولّى مركزاً سياسياً».
رغم ذلك كله، فإن متابعة هذا الملف – الفضيحة لم تكن على قدر الآمال. فهناك قضاة حُكِموا ظُلماً لأنّ هيئة العدالة العليا اعتبرت أنّ لفلفة الفضيحة لا تتم إلا عبر التضحية بأحدهم. فيما هناك قضاة بُرِّئوا، لكن الوصاية السياسية غير العادلة التي يمارسها وزير العدل ألبيرت سرحان، حالت دون إعادتهم إلى مراكزهم. وبالتالي، لم يسلك هذا الملف المسار العدلي المفترض أن ينتهي بلصوص وفاسدين ينتحلون صفة قضاة خلف القضبان.