كتب د. منير راشد في صحيفة “الجمهورية”:
تردّد في تقارير محلية وأجنبية عدة عن الحاجة الماسة لمعالجة الوضع المالي والنقدي من خلال إعادة هيكلة الدين والودائع، والتي شملت خفضهما معاً لتوزيع أعباء الإصلاح المالي. وقد أدخلت هذه الإقتراحات الهلع والخوف في قلوب المواطنين، ما دفع بالعديد منهم الى نقل أموالهم إلى الخارج أو ألاحتفاظ بها في منازلهم. ولكن ليس بالضرورة أن تقع تكلفة إعادة الهيكلة على حساب المواطن وإنما على حساب حاملي هذه السندات.
لا أرى أنّ الهلع ضروري إذا ما اتخذت الحكومة مع مصرف لبنان الاجراءات اللازمة الملائمة المعلنة لمعالجة الأزمة، وبالأخص معالجة الدين الصادر بالعملة المحلية في المرحلة الحالية.
أولاً، إذا ما نظرنا إلى هيكل مديونية الدولة، نلاحظ أنّ الدين الإجمالي البالغ 129 الف مليار ليرة في نهاية حزيران 2019، حسب أرقام الدين الصادرة عن وزارة المالية، يتوزع بين العملة المحلية بمقدار 80 ألف مليار ليرة (62%) وما يوازي 49 الف مليار ليرة بالعملات الاجنبية.
اما الدين بالليرة فيتوزع على مصرف لبنان (البنك المركزي) بمقدار 43 ألف مليار (53% من الدين بالليرة)، و11 ألف مليار بحوزة الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي (13%)، وما تبقّى ويبلغ 27 ألف مليار (34%) لدى البنوك التجارية.
وليس هناك أية حيازة للدين بالليرة في الخارج. وتبلغ تكلفة خدمة الدين بالليرة نحو 5 آلاف مليار ليرة (60% من مجمل خدمة الدين)، ويحصل مصرف لبنان من هذه الفائدة على نحو 2.7 ألف مليار ليرة.
يُعتبر الدين لدى مصرف لبنان من ضمن القطاع العام ذاته. اذ أنّه جزء لا يتجزأ من هذا القطاع، على الرغم من استقلالية سياسته النقدية. وفي الظرف الحالي، تقوم الحكومة بالاتفاق مع مصرف لبنان بتدوير الدين والاقتراض منه لخدمة فائدته.
ومن الممكن اعتبار هذا الدين في حوزة مصرف لبنان ديناً معدوماً ويستطيع المصرف حذفه (إسقاطه) من أصوله وكذلك من التزاماته. فتنخفض أصول وإلتزامات مصرف لبنان بمقدار 43 ألف مليار ليرة لتصبح أصوله بعد الحسم (حسب أرقام حزيران 2019) 162 ألف مليار ليرة.
وسيُخوّل هذا الاجراء تقليل نفقات الدولة بـ 2.7 ألف مليار ليرة من نفقات الفائدة لخدمة الدين العام. كما سيخسر مصرف لبنان هذا المبلغ في الوقت ذاته. فتكون النتيجة تحسين موازنة الدولة على حساب ميزانية مصرف لبنان. ولكي يخفف مصرف لبنان من أعبائه المالية فقد يخفّض الفائدة على شهادات إيداع المصارف لديه بما يوازي خسارته من عائد الفائدة المذكورة أعلاه.
إنّ خفض الفائدة على شهادات ألإيداع سيؤدي إلى خفض معدل الفائدة في الأسواق المالية، حيث أنّ قدرة المصارف على دفع الفوائد المرتفعة سينخفض. لهذا تكون إعادة هيكلة الدين العام على حساب القطاع العام وأرباح البنوك من دون أن تتأثر الودائع الخاصة في حد ذاتها، وإنما فقط العائد عليها. كما ستنخفض تباعاً الفائدة على الدين بالدولار. أما الدين بالدولار لدى مصرف لبنان فمصدره الودائع لدى المصارف الخاصة، ولا يحق حذفه ولا يُعتبر ديناً عاماً حراً.
أما الحكومة، فسوف تحسّن من ملاءتها بسبب خفض العجز بمقدار 2.7 ألف مليارعلى الأقل بشكل دائم، من خلال خفض تكلفة خدمة الدين بشكل مستمر.
كما أنّ الدين العام سينخفض الى 87 الف مليار ليرة، وكذلك ستنخفض نسبته الى الناتج المحلي الى نحو 100% بدلاً من 150%. وستتمكّن الدولة بعد ذلك من تحّمل أعباء خدمة الدين بالليرة والدولار لمصرف لبنان والمصارف، حيث أنّ الفوائد على الدين والودائع بالعملة المحلية والدولار ستنخفض أيضاً على أثر الإصلاح المالي.
كما تدعو الضرورة الى اتخاذ مزيد من الإصلاحات لخفض العجز المالي كما يلي:
يتوجب على الدولة أن تقوم بمزيد من الإصلاحات المالية لخفض النفقات في المجالات الأخرى. ومن أهمها خفض عجز شركة كهرباء لبنان. إنّ الحل الأسرع للكهرباء هو من خلال البدء بالحل القصير الأجل حالاً من خلال توفير الكهرباء من أي مصدر يقدّم السعر الأفضل بالإستناد الى مناقصات شفافة ونزيهة، لتأمين نحو 1000 ميغاواط ساعة، على أساس الاستجرار للطاقة من خلال عقود شراء (power purchase agreements)، وبتعديل التعرفة إلى 15-16 سنتاً للكيلوواط.
كما أكّدت وزارة الطاقة، انّ ذلك سوف يؤمّن الكهرباء 24 ساعة تقريباً، وتكون التكلفة لفاتورة واحدة أقل من فاتورتين على المستهلك. ويوفّر المستهلك نحو 1.5 الف مليار ليرة (1 مليار دولار). كما ستوفر المالية العامة نفقات الدعم البالغة نحو 2 ألفي مليار ليرة (1.3 مليار دولار).
إضافة إلى ذلك، نرى انّ الأجور والرواتب تتصف بالبذخ والهدر في مجالات عدة. ومن الممكن تحقيق تقشف ملموس من خلال خفض التقديمات السخية، وانهاء العقود العشوائية، وخفض ساعات العمل الإضافية والعديد من تقديمات نهاية الخدمة. أضف إلى ذلك، أنّه بالإمكان زيادة الإيرادات من مرافق عدة وخاصة الجمارك، والتهرّب الضريبي، مما سيمكّن من توفير ما لا يقل عن 1000 مليار ليرة (0.7 مليار دولار) إضافية في العجز المالي.
وستوفّر هذه الإجراءات مجتمعة نحو 5.8 إلى 6 آلاف مليار ليرة للمالية العامة (4 مليارات دولار) في 2020. وسينخفض العجز المالي الكلي الى نحو 2 ألفي مليار ليرة (1.3 مليار دولار) بدلاً من 8 آلاف مليار ليرة (5.3 مليارات دولار) مقدّرة في 2019، أي ما يوازي 2.5% من الناتج المحلي بدلاً من 9.5%.
إنّ هذه الإجراءات كفيلة بإعادة الإقتصاد اللبناني إلى مصاف الدول ذات الإقتصاد السليم في 2020، وسوف يتحسّن تصنيف لبنان الإئتماني، وستنخفض الفوائد، ما سيؤدّي إلى تحريك عجلة الإقتصاد.
ويتوجّب على الحكومة الإستمرار في خفض العجز في 2021 و تقليصه بـ 2000 مليار إضافية (العجز المقدّر لعام 2020) ليتحقق توازن كامل في ميزانية الدولة في 2021. وتصبح لديها القدرة على الإستمرار بتحقيق التوازن من خلال إتباع مبدأ زيادة النفقات بمقدار زيادة الإيرادات.