كتب جيلبير متري في صحيفة “نداء الوطن”:
إنَّ موجة الحملات التي تُرافق عنوان «مكافحة الفساد» من فتح ملفات وتبادل اتّهامات وتحميل مسؤوليات قد بلغت أوجها، وهنا لا شكَّ أنَّ الأسهم قد طالت في غالبيتها الوزراء بين حاليين وسابقين بحكم موقعهم على رأس السلطات التنفيذية ووصايتهم المباشرة على المؤسسات والإدارات العامّة وعلى مشاركتهم في تحديد السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية على طاولة مجلس الوزراء.
لكنَّ الفساد متى استحكم، في أيّ مؤسسة أو موقع، يتطلّب الأدوات التي تُمهّد، تُخطّط وتُنفّذ؛ من هنا نطرح ملف المديرية العامّة لوزارة الشؤون الاجتماعية التي تكاد تكون لسنوات المصدر الأساسي لجملة من المخالفات الإدارية والقانونيّة وباباً استُبيحت عبره المصلحة العامّة لحساباتٍ فئوية وزبائنيّة تحت شعارات الإصلاح والرقابة وبغطاءٍ سياسيّ تسلّح به مدير عام الوزارة القاضي عبدالله أحمد، فجابه الوزراء المتعاقبين على رأس الوزارة وأفشل كلّ خطواتهم وتحديداً الإصلاحية منها بسلاح التّعطيل والتّمييع والالتفاف على الأنظمة.
تأخير عقود الجمعيات
استغلّ أحمد موقعه فعمد منذ العام 2017 الى تأخير إعداد عقود جمعيات الرعاية الاجتماعية وتوقيعها من أوائل العام إلى نهايته مُعاكساً ما تنصّ عليه القوانين والأعراف بحجّة دراسة المساهمات. فهذه السنة رفض المدير العام تحضير عقود الجمعيات مُتذرّعاً بغياب الموازنة، فما كان من الوزير الحالي ريشار قيومجيان سوى إرسال كتاب إلى مجلس الوزراء في بداية شهر آذار 2019 طالباً الموافقة على إبرام العقود وفق موازنة العام 2018، ولكن رغم موافقة الحكومة، ورغم الكتاب الخطي الذي وجّهه الوزير للمدير العام لبدء السير بالمعاملات الإدارية اللازمة، تأخّر أحمد في رفع الجزء الأول للوزير إلى نهاية شهر تشرين الأوّل، والجزء الثاني لأواخر شهر تشرين الثّاني.
مخالفات أحمد وصلت لحدٍّ لا يُوصف حيثُ استغل موقعه عبر ترؤسه للجان المشاريع المنبثقة في الوزارة حيثُ يستحصل على بدل عن الاجتماعات التي تُعقد خارج الدّوام الرّسمي، رغم عدم انعقادها في الأساس، فيقوم أحمد باتّخاذ القرارات منفرداً وبإعداد نصّ المحاضر وإرسالها إلى بقيّة الأعضاء للتّوقيع في هدرٍ مباشر. مع العلم أنّه لا يكتفي بذلك، بل يقوم بتسجيل ساعات عمل إضافية في حدّها الأقصى، حيثُ ينال أتعابها، كما يقوم بقبض بدل نقل على الرّغم من وضعه سيارتين من الوزارة بتصرّفه ومرافقيه على مدار اليوم 24/24، وتسديد بدل ثمن المحروقات من موازنة الوزارة.
حوّل المدير العام عبدالله أحمد وزارة الشؤون الاجتماعية إلى شبه إمارة خاصّة تحت سلطته فبنى لنفسه إدارة بديلة، حيثُ يضمّ مكتبه الخاص سبعة موظفين بين موظفي ملاك ومستخدمين في المشاريع المنبثقة، على الرّغم من أنَّ غالبيتهم الساحقة يعملون في مكتبه من دون أيّ تكليف من وزير أو أيّ مسوّغ شرعي، بالاضافة إلى ما يُعرف داخل أروقة «الشؤون الاجتماعية» بـ»كبير مستشاري المدير العام» وهو ليس موظفاً في الوزارة بل يقبض راتبه من إحدى المنظمات الدولية بقرار مباشر من أحمد، لكنّه يتمتّع بنفوذ كبير حيثُ يجول على الموظفين ومراكز الوزارة ويعطي الأوامر والتّوجيهات في كلّ حدبٍ وصوب كما يُشرف على المشاريع وكان آخرها مشروع تأهيل الطبقة الأرضية من المبنى الرئيسي للوزارة، وكلّ ذلك «بإسم الرّيس»، قاصداً المدير العام، كما يُردّد على مسامع الجميع ويُهوّل إن اقتضى الأمر.
حجب تمويل ذوي الاحتياجات الخاصة
ولدى التّدقيق في ملف وزارة الشؤون الاجتماعية، يتبيّن أنَّ المدير العام لديه أربعة مرافقين ينالون رواتبهم من حساب الوزارة، حيثُ رفض الوزير الحالي المستقيل قيومجيان تجديد عقودهم إضافةً إلى مستخدمين آخرين كونهم لا يعملون في المشاريع المنبثقة وفقاً للاصول ووفقاً للمُسمّى الوظيفي المذكور في عقودهم.
أزمة كبيرة لحقت بحاملي بطاقة ذوي الاحتياجات الخاصة الصّادرة عن الوزارة، بعد أن قام المدير العام بحجب التّمويل عن برنامج تأمين حقوق هؤلاء الذي من خلاله تُؤمّن التّقديمات والخدمات، فقد أرسل الوزير كتباً خطّيّة متكرّرة للمدير العام يطلب فيها تحويل بعض الأموال من السلفات التي كانت قد أُخذت سابقاً من موازنة المشروع لصالح مشاريع ومراكز أخرى بُغية تأمين المصاريف التشغيلية للمشروع ولتقديم حدّ أدنى من الخدمة المقبولة لذوي الاحتياجات الخاصة ولكن كانت طلبات الوزير ومديرة البرنامج تُجابه بالرّفض التّام من المدير العام.
الوضعيّة نفسها عانت منها الجمعيات التي تزوّد البرنامج بالمعدات والتجهيزات اللازمة حيثُ أنّها لم تنل مستحقاتها منذ مدة ممّا اضطرها إلى التوقف عن تقديم الخدمات باستثناء «جمعية دعم الجرحى» التي على ما يبدو تملك المقدّرات لتُتابع خدماتها. هذا إضافةً إلى التضييق على البرنامج بفعل سوء العلاقة التي جمعت أحمد مع مديرة البرنامج ممّا أدّى إلى سوء الخدمة وانقطاع تأمين الخدمات مراراً حتى وصل الأمر إلى انقطاع التيار الكهربائي وإذلال المواطنين المستفيدين.
في مشروع دعم الأسر الأكثر فقراً مُكَوِّن مُسمّى «برنامج التخرّج»، مُموَّل من البنك الدولي والهدف منه تدريب وتمكين بعض العائلات المستفيدة من المشروع من الخروج من حالة الفقر عبر تدريب أحد أعضائها على مهنة أو صنعة معيّنة كما يقوم على تدريب جمعيات محلّيّة تختارها لجنة في وزارة الشؤون يرأسها المدير العام وفقاً لآليّة ومعايير محددة من البنك الدولي وتحت إشراف رئاسة مجلس الوزراء. لكن «إستغلال النّفوذ» الذي طبع إدارة أحمد للوزارة، دفعه للضغط على أعضاء اللجنة الذين يملكون حقّ التّصويت وإجبارهم على رفع علامات جمعية البركة المقرّبة منه لتتساوى في العلامات مع جمعية أخرى ممّا اضطر أعضاء اللجنة إلى تعديل العلامات التي كانوا قد وضعوها، وقد علم المعنيون في البنك الدولي ورئاسة مجلس الوزراء بالأمر، فرفضوا النتائج وطلبوا إعادة التقييم، والمشروع ما زال متوقفاً حتى تاريخه.
مخالفات قانونية وإدارية
تجاوزات أحمد لا تُعدّ ولا تُحصى من قانونية وإدارية، منها تخطّيه بشكل مخالف سقف التعويضات الاضافية الممنوحة له والمسموح بها قانوناً بنسبة%70على مدى سنوات، إضافةً إلى مخالفة التوجيهات والتعليمات الخطية من الوزراء وإيقاف العديد من الاحالات والمعاملات تعسفاً ومن دون وجه حق، ناهيك عن سوء معاملة الموظفين وإهانتهم ومصادرة صلاحياتهم؛ كلّ هذه التّجاوزات أرسلها الوزير في كتابٍ مُفصّل إلى التفتيش المركزي أوائل شهر أيار الماضي، لكن كما يبدو فحتّى تاريخه ما زال الملف مُعلّقاً أو أقلّه لا يسير بالسرعة المطلوبة في التعاطي مع المخالفات المذكورة وما يترتب عنها من تعطيل لسير المرفق العام وحقوق الناس وتطبيق القوانين المرعية الاجراء وهيبة الدولة وسلطتها.
يُضاف إلى كلّ ذلك ما شهدته الوزارة أمس من اعتصامٍ للعاملين في برنامج الاستجابة للازمة السورية والمموّل من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR، بعد أن قام المدير العام بتجميد تسديد رواتبهم التي لم يتقاضوها منذ شهر كانون الثاني المنصرم على الرغم من صدور مرسوم قبول الهبة عن مجلس الوزراء منذ أكثر من شهرين، ليُحرّك تحت ضغط الاعتصامات والاعتراضات قرار صرف مستحقّاتهم.
إنَّ جملة ما عرضناه نضعه برسم كلّ الأجهزة القضائية والرقابية، وتحديداً التفتيش المركزي للبتّ فوراً بملفات المدير العام عبدالله أحمد، حمايةً للمصلحة العامّة وحقوق المواطنين كما لانتظام عمل المؤسسات بعيداً عن الكيديّة والزبائنيّة والمحسوبيات، كما نضع كل ذلك برسم المرجعيّة السياسيّة لأحمد، «حزب الله»، لرفع الغطاء السياسي عنه، لأنَّ لعبة الاستثناءات في مكافحة الفساد هي في حدّ ذاتها فساد.