انطلق في بيروت أسبوعٌ لا يشي بأنه سيحمل اختراقاتٍ على صعيد إخراج لبنان من «عين العاصفة» التي وجد نفسه فيها مع انفجار «ثورة 17 أكتوبر» على خلفية واقعٍ مالي – اقتصادي ظهّر سوء إدارة الدولة ومقدّراتها ومدى «تَوَرُّم» الفساد في جسدها المُنْهَك أيضاً بنظام المحاصصة الطائفية والحزبية وبخياراتٍ عابرة للحدود جرّت البلاد إلى فوهة المواجهة الأميركية الكبرى مع إيران وأذرعها في المنطقة.
ومع دخول الانتفاضة الشعبية يومها الأربعين، وعشية انقضاء الأسبوع الرابع على استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، بدا لبنان، بحسب أوساط سياسية، وكأنه يمضي في السير على حبلٍ مشدود «فوق رؤوس الثعابين»، وسط إمعان أطراف السلطة في لعبة «مداعبة الأفاعي» وتَقاذُف «كأس السم» لاعتباراتٍ، إما سلطوية أو إقليمية، فيما الثورة ثابتةٌ على زخمها وأجنْدتها المطلبية بدءاً من حكومة اختصاصيين مستقلّة تمهّد لانتخابات نيابية مبكرة.
وفي هذا الإطار شخصتْ الأنظار أمس على 3 مسارات متوازية:
* الأوّل مأزق تشكيل الحكومة الجديدة العالق عند إصرار فريق رئيس الجمهورية ميشال عون و«حزب الله» على صيغةٍ تكنو – سياسية بما يحقق هدفيْن: الحؤول دون «تسليم» القرار السياسي للحريري في حكومة التكنوقراط التي يتمسّك بها الأخير من خارج خريطة التوازنات التي أفرزتْها الانتخابات النيابية الأخيرة، وتوفير غطاء سياسي لـ«حزب الله» في غمرة عصْف العقوبات الأميركية، وذلك في موازاة امتناع الحزب عن اعتماد خطوةٍ إلى الأمام بممارسة «أكثريته البرلمانية» لتكليف رئيس وزراء غير الحريري وتأليف الحكومة التي يشاء مكتفياً حتى الساعة بمحاولة إبقاء الرئيس المستقيل «رهينة» معادلةِ أن لا حكومة من دونه أو بلا رئيسٍ جديد يوافق عليه مع توفير غطاء للتشكيلة الحكومية عبر مشاركة «تيار المستقبل» فيها.
وإذ كانت الأوساطُ السياسية تتعاطى مع التسريباتِ التي ازداد منسوبُها أمس عن محاولاتٍ لتسويق أسماء لرئاسة الحكومة من شمال لبنان وغير بعيدة عن الحريري على أنها من ضمن لعبة الضغوط المستمرة على زعيم «تيار المستقبل» للقبول بترؤس الحكومة التكنو – سياسية، فهي لاحظتْ أن «حزب الله» يُراكِم «خطوط الدفاع» عن مثل هذه التشكيلة عبر خطاب ممنْهج يعتمد على «أمْركة» مطْلب حكومة الاختصاصيين وربْطه برغبة واشنطن في إقصاء «حزب الله» وفريق عون عن السلطة التنفيذية لاعتباراتٍ ذات صلة بـ«حرب العقوبات» على الحزب كما بعناوين «استراتيجية» مثل ترسيم الحدود البحرية والبرية مع إسرائيل التي صارت «الاسم الحرَكي» لملف النفط.
وفي رأي هذه الأوساط أن استخدام «حزب الله» المواقف الأخيرة للسفير الأميركي الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان وتحويل الحكومة التكنو – سياسية عنواناً لمعركة مع الولايات المتحدة على قاعدة «إما ننحني للأميركي ونخضع لاحتلال مبطن أو نحافظ على قوتنا وإمكاناتنا وقدراتنا» يعبّر في الوقت نفسه عن منحى متشدّد يصعب أن يتراجع عنه الحزب في ما خصّ بروفايل الحكومة الجديدة الذي بات يرتبط في جوانب منه مع مسار انتفاضة العراق واحتجاجات إيران، كما أنه أشبه بـ«هروب إلى الأمام» من عدم القدرة على تَحمُّل أكلاف السير بحكومة اللون الواحد التي ستعني حكماً عزْل لبنان عن الخارج وجعْل «قنبلة» الواقع المالي – الاقتصادي تنفجر بيد فريق 8 آذار لوحده مع وضْعه منفرداً وجهاً لوجه أمام الشارع المنتفض، وهو ما يعزّز تالياً فرضية أن تطول الأزمة الحكومية وتمديد وضعية «الانتظار على التلة».
* والمسار الثاني استمرار الثورة على تَوهُّجها، حيث ضربت أمس، موعداً مع «أحد التكليف» الذي وجّه رسالةً إلى السلطة لضرورة الإسراع بتحديد موعد للاستشارات النيابية المُلزمة لتكليف رئيس الحكومة الجديدة. وقد اتخذت الاحتجاجات شكلاً جديداً مع تنفيذ المُنْتفضين تجمّعات (بعضها استخدم الزوارق البحرية) على عدد من الشواطئ اللبنانية من بيروت إلى الشمال (شكا وطرابلس خصوصاً) والجنوب (صيدا وصور) تأكيداً على الحق بالاستفادة من الشاطئ ورفْضاً للتعديات على الأملاك البحرية، وسط أجواء من الفرح وحلقات الدبكة والرقص وافتراش الأرصفة من العائلات بالتزامن مع إقامة موائد فطور في إطار حملة «خبز وملح» التي دعا إلى تنظيمها الثوار في وقت واحد على امتداد الساحل اللبناني.
وفيما كانت مناطق عدة تشهد اعتصامات وبينها كفررمان (النبطية) حيث شارك الفنان مارسيل خليفة المنْتفضين مقدِّماً بعض أغنياته الثورية، في ظلّ رصْدٍ لنتائج دعوات وُجهت لإضراب عام اليوم، لفت الاعتصام الذي نُفِّذ في محيط السفارة الأميركية في عوكر تنديداً بتصريحات فيلتمان الأخيرة، ورفضاً للتدخّل الأميركي بالشأن اللبناني، وقد تخلّله حرق العلمين الإسرائيلي والأميركي ومحاولة لإزالة السياج الشائك.
* أما المسار الثالث الذي بقي مدار اهتمام لصيق، فهو الوضع المالي – النقدي الذي بدأ يُنْذر بتداعيات اقتصادية واجتماعية ومعيشية كارثية، راحت معها بعض وسائل الإعلام تستحضر عبارات مثل «المجاعة» في استشرافِ آفاق القيود غير المسبوقة في تاريخ لبنان التي تتبعها المصارف على تحويل الدولار إلى الخارج وتقنين سحْبه في الداخل (بين 300 دولار وألف دولار في الأسبوع وفق الحسابات)، وصولاً إلى التقارير المتزايدة حول بدء نفاد مواد غذائية وسلع ضرورية في ضوء استيراد لبنان نحو 80 في المئة من حاجاته الغذائية ودخول مواد مستوردة في صلب صناعاته الوطنية، على قلّتها، وذلك في موازاة النتائج المأسوية التي ستترتب على انخفاض قيمة العملة الوطنية بنسبة نحو 30 في المئة حتى الساعة وفق سعر التداول «الحقيقي» في السوق، وارتفاع أسعار السلع في شكل كبير والذي يرتبط في جانب آخر برسوم جديدة كانت فُرضت في موازنة 2019.
وإذ بدا من الصعب لدى غالبية الخبراء تقدير المدى الذي ستبلغه «المحنة» المالية – النقدية، فقد بدأت المصارف تحاول التكيّف مع «أزمة طويلة» محاولة «الصمود» بانتظار اختراق سياسي عبر «حكومة ثقة» تهدئ المودعين وتشجّع على استعادة التحويلات الى لبنان وتيرتها المرتفعة، وهو ما لا يتوانى المجتمع الدولي عن الحضّ عليه وسيكون محور الجلسة التي يعقدها مجلس الأمن اليوم لمناقشة تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بشأن تنفيذ القرار الرقم 1701.