كتب خالد أبو شقرا في صحيفة “نداء الوطن”:
أُطلقت عبر مواقع التواصل الإجتماعي دعوة إلى مقاطعة الدولار ابتداءً من مطلع هذا الأسبوع. وبرأي المنظّمين، فإن هذه الحملة ستساهم في دعم العملة الوطنية، وترفع قيمة صرفها مقابل الدولار الى حدود 500 ليرة. الحملة لاقت ترحيباً كبيراً ومشاركة واسعة، حتى أن البعض وضَع الشعار “كلنا-يعني-كلنا لدعم عملتنا (…) تا يصير الدولار بخمسمية”، مكان صورته “profile picture”، على غلاف صفحته. فهل تنفع المقاطعة لتخفيف عبء “فرق العملة” عن كاهل المواطنين؟ وتنجح، حيث أخفقت كل السياسات النقدية؟
الخلفيات البريئة لحملة مقاطعة الدولار، ومداعبتها مشاعر من عانوا في أوائل التسعينات من تقلّبات أسعار الصرف، تواجَه اليوم على أرض الواقع بجملة تحديات موضوعية، وبمجموعة من المعطيات الإقتصادية، تجعل منها مجرد حلم جميل مستحيل التحقيق. ولعل وصول سعر صرف الدولار اليوم (البارحة) الى 2020 ليرة هو خير دليل على الإرتباط الوثيق بالعملة الخضراء.
وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون فإن رفع سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية قد يؤذي الإقتصاد، ويسبّب تراجعات كبيرة في الصادرات الصناعية والزراعية ويجعلها أقل تنافسية في الأسواق العالمية. والكثير من الدول المصدّرة، كتركيا على سبيل المثال، تستغل تدهور الظروف الإقتصادية لتخفض قيمة عملتها. إلا ان لبنان حالة خاصة، فلا هو بلد منتج ليستفيد من انخفاض قيمة عملته، ولا اقتصاده مبرمج على تقبّل سعر السوق الحقيقي، نتيجة تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار على 1500 ليرة منذ التسعينات. فما الحل؟.تبلغ نسبة الدولرة في الإقتصاد اللبناني نحو 75 في المئة، ما يعني أن ثلاثة أرباع العمليات التجارية الداخلية تُجرى بالدولار. وتقاس “الدولرة” من خلال احتساب نسبة الودائع ونسبة التسليفات المصرفية والشيكات المحررة بالعملات الأجنبية، وهي تعكس بشكل مباشر نظرة المتعاملين وثقة المودعين بالعملة الوطنية، ودرجة المخاطر المحتملة على سعر صرفها. واذا كان من المستحيل إعادة عقارب الساعة الى الوراء والتأثير على نسبة التسليفات والودائع بالدولار، فإنه “بإمكاننا إلغاء مقاصة الشيكات بالدولار”، يقول الخبير الإقتصادي جان طويلة، وبرأيه فإن “خلق المقاصة بالدولار في أوائل التسعينات لضبط التقلبات الحادة بسعر الصرف والحدّ من تأثيرها على المتعاملين والتجار، لم يعد جائزاً اليوم، فقيمة الشيكات السنوية التي تُحرّر بالعملة الأجنبية كبدلٍ عن عمليات داخلية تبلغ 44 مليار دولار، في حين لا تتجاوز هذه القيمة بالعملة اللبنانية الـ 23 ملياراً. وبالتالي فإن تحويل التعامل بالشيكات الى الليرة سيُريح الأسواق ويخفّف من الضغط على الدولار بنسبة 30 في المئة، إذا اعتبرنا أن معدّل دوران الدولار turn over حوالى 4 مرات”.
الإستيراد هائل
إغلاق نافذة التداول الداخلي بالدولار، يُبقي باب التعامل الخارجي بالعملة الصعبة مشرعاً على مصراعيه. فقد بلغ مجموع قيمة المستوردات اللبنانية خلال العام الماضي، 19980 مليون دولار أميركي، أي ما يقارب 20 ملياراً. رقمٌ يُشكّل الطلب الأكبر على الدولار من الأسواق الداخلية، بعدما تراجع مردود النشاطات الإقتصادية التي تؤمن الأموال الطازجة، “fresh money”، إلى حدوده الدنيا. فقيمة الصادرات في العام 2018 بالكاد وصلت إلى 3 مليارات دولار، والإستثمارات الأجنبية المباشرة لامست الصفر، وتحويلات المغتربين شهدت تراجعاً ملحوظاً، في حين أن عائدات السياحة السنوية للأعوام بعد 2010 انخفضت من 8 مليارات دولار الى حدود 4 مليارات سنوياً.
هذا الواقع يدفع التجار والمستوردين مرغمين على تبديل الليرة اللبنانية الى دولار، وبحسب معادلة إقتصاد السوق، فإن زيادة الطلب على الدولار ستدفع الى مزيد من الإرتفاع في سعر صرفه مقابل الليرة. وبحسب طويلة فإن “السعر الحقيقي للدولار، هو السعر الذي تُجرى على أساسه العمليات، أي سعر السوق وليس السعر الرسمي المحدّد بـ 1515 والذي أصبح اليوم شبه وهمي. وإذا كنّا لا نملك رفاهية مقاطعة الدولار، فإن جلّ ما نستطيع عمله هو تخفيف الضغط على الليرة في الأسواق، من خلال طريقتين: الأولى، تتمثّل في تشجيع اللبنانيين على استعمال الليرة اللبنانية في مشترياتهم سواء كانت النقدية أم عبر بطاقات الإعتماد. والثانية، إلغاء مقاصّة الشيكات بالدولار والتي تدفع الى تحويل ما قيمته 12 مليار دولار الى الليرة. وبهذه الطريقة نساهم في تعديل سعر الصرف، ونحدّ من ارتفاعاته الكبيرة”.ظاهرة “الدولارين”
الحلول الرامية إلى تخفيف الضغط عن الليرة، والتي تترافق مع حجز المصارف للودائع بالعملات الأجنبية ومنع تحويلها الى الخارج، تدفع الى تعميق ظاهرة “الدولارين”. فهناك الدولار العالق في الحسابات المصرفية، والذي سيُجرى تحويله إلى الليرة على السعر الرسمي المقدر بـ 1515، بكل رحابة صدر، في حال أراد المودع سحبه بشكل نقدي أو عبر عمليات الشراء بواسطة بطاقات الإئتمان بشقيها الدائن والمدين “Debit card & Credit card “. وهناك الدولار الجديد الناتج عن التحويلات الخارجية، وعمليات صرف المقيمين وغير المقيمين في الداخل، والذي تبلغ قيمة صرفه 2000 ليرة لبنانية.
إذا اسثنينا العامل السياسي كجزء أساسي من الحلّ، فإن العودة إلى الأصول الإقتصادية القائمة على الإنتاج الحقيقي، تشكّل المنفذ الوحيد لخروج لبنان من عنق زجاجة الإقتصاد الريعي. الصدمة السلبية التي نعيشها يجب أن توعّي القيمين، وتدفعهم الى تنفيذ الإصلاحات الجوهرية، التي وضعت خطة “ماكينزي” جزءاً كبيراً منها، خصوصاً لجهة تخفيض الضرائب وتحفيز الصناعة والزراعة والتشجيع على خلق القيم المضافة وجذب الإستثمارات الخارجية وإصلاح هيكلية الدولة وتخفيض كلفة مؤسساتها وإداراتها، والشروع فوراً في إصلاح الموازنة العامة، وتلبية شروط “سيدر” لتأهيل البنى التحتية الضرورية… عندها يكون الإقتصاد اللبناني قد وضع على سكة النمو الحقيقية.