كتب نجم الهاشم في صحيفة “نداء الوطن”:
منذ اليوم الأول لاندلاع ثورة 17 تشرين، وضع “حزب الله” نفسه في مواجهة مباشرة معها، واعتبر أنه المعني الأول بهذه الحركة وأنها تستهدفه، إنطلاقاً من شكّه الدائم بوجود مؤامرات تحاك ضده. هذا الموقف الإستباقي ينطلق دائماً من الدور الذي يلعبه “الحزب” ويخوض فيه مواجهات مفتوحة على أكثر من جبهة داخلية وخارجية. فالمسألة لا تتعلق أبداً بما يقال عن التعرّض لأمينه العام السيد حسن نصرالله، لأن هذه الحجة تكون في الغالب سبباً لتبرير الحرب التي يقودها ضد الثورة.
في 24 تشرين الثاني الحالي عندما توجه حشد من أنصار “الحزب” و”حركة أمل” إلى جسر فؤاد شهاب للإغارة على المتظاهرين الذين أقفلوا الطريق، كانت هتافاتهم واضحة ومعلنة ومكشوفة. صحيح أن قوة من الجيش اللبناني حالت دون الإصطدام فوق الجسر، ولكن الحشد الغاضب تمكن من الإعتداء على خيام الإعتصام في وسط بيروت وعلى الممتلكات الخاصة في بعض الشوارع الداخلية في الأشرفية. تلك الصورة التي نقلت مباشرة على الهواء طوال الليل تقريباً، كانت تنشر مقابلها صورة أخرى عن الفراغ الذي يتركه “الحزب” عند بوابة فاطمة، حيث تنعم منطقة الخط الأزرق بهدوء ثابت منذ صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي في آب 2006 بعد حرب تموز.
لم تكن المرة الأولى
لم تكن تلك المرة الأولى التي يحصل فيها مثل هذا الإعتداء. في الليلة الأولى للإعتصام في رياض الصلح في 18 تشرين الأول حصل ما لم يتم توضيحه بعد وما لم تكشف التحقيقات عن خلفياته. لقد انطلق الحراك في الليلة السابقة على أساس مطالب شعبية حقيقية لا خلفيات سياسية لها. ولكن في تلك الليلة الأولى على هذا الحراك السلمي كان هناك متسللون إلى الساحة، قاموا باستهداف قوى الأمن الداخلي وتخريب المنشآت العامة وإحراق بعض الأملاك الخاصة، في منحى غريب عن الحراك بدا أنه يهدف في النهاية إلى إثارة رد فعل لدى قوى الأمن لقمع الإنتفاضة الشعبية. وقد حصل مثل هذا الأمر بالفعل عندما ردت قوى الأمن بقوة وأبعدت المحتجين عن ساحة رياض الصلح، قبل أن يعودوا في اليوم التالي معلنين وملتزمين سلمية التحرك الذي امتد على مدى مختلف المناطق اللبنانية، وتمّ خلاله قطع الطرق قبل أن يقدم الرئيس سعد الحريري استقالته في 30 تشرين الأول.
تقديم هذه الإستقالة لم يكن ليأتي في سياق التطور الطبيعي للإنتفاضة، التي تحولت ثورة فعلية نتيجة التضامن الشعبي الكبير والحشود في الساحات وظهور خطاب وطني واحد، يطالب بدولة موحدة لا فساد فيها وبحكومة قادرة على الإنقاذ من الإنهيار. ففي 29 تشرين الأول قامت مجموعات من مناصري “أمل” و”حزب اللهي” بالهجوم على المعتصمين أيضاً بدءاً من جسر فؤاد شهاب قبل ساعات من الكلمة التي كان سيلقيها الأمين العام لـ”الحزب” السيد حسن نصرالله، ويعلن فيها أن الحراك في الشارع لن يستطيع إسقاط العهد بعدما كان في الخطاب الأول قال أنه لن يستطيع إسقاط الحكومة. في ذلك الهجوم أحرق المهاجمون المشحونون بالغضب خيام رياض الصلح وساحة الشهداء. ولكن بعد ساعات قليلة كانت تلك الخيام تعود وبقي المتظاهرون في الساحات وزادت أعدادهم وتمسكوا أكثر بمطالبهم. هكذا أيضاً بعد إحراق خيم ساحة العلم في صور ليل 25 تشرين الثاني الحالي عادت هذه الخيام إلى الحياة في اليوم التالي.
مشكلة قديمة
ثمة مشكلة بين “حزب الله” والثورة. وهي ليست مشكلة جديدة. لأن مشكلة “الحزب” هي مع الدولة أولاً ومع مشروعه لهذه الدولة، قبل أن تكون هذه الثورة. سقوط حسين شلهوب وشقيقة زوجته سناء حبيب الجندي نتيجة حادث سير في الجية أتى بعدما كانت حصلت اعتداءات وسط بيروت. هذا الحادث لم يكن إلا سبباً إضافياً لتصعيد الغضب ومحاولة تحويله إلى غضب شيعي عام تراكم منذ 17 تشرين ومنذ البدء بقطع الطرقات وفتحها. الدعوات التي انطلقت من تحت جسر المشرفية في الضاحية الجنوبية وطالبت بـ7 أيار جديد لم تكن بحاجة إلى أكثر من هذا الحادث لتعلن عن نفسها وتكشف ما يمكن أن يقدم عليه “الحزب”، بانتظار أن يأمر أمينه العام بذلك كما قال بعض الذين تحدثوا في هذا الحشد أو في الحشد الذي رافق عملية تشييع شلهوب في بلدته طيرفلسيه. ربما وفي هذا التوقيت للتهييج الشعبي تجدر المقارنة بين الطريقة التي تعاطى بها رئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط بعد استشهاد علاء أبو فخر عند مستديرة خلده وبين الطريقة التي تعاطى بها أنصار “حزب الله” بعد سقوط الضحية شلهوب.
في 12 كانون الثاني 2011 عندما أعلن الوزير في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل من الرابية استقالة وزراء “التيار الوطني الحر” و”أمل” و”حزب الله”، وعندما انضم إليهم في الإستقالة الوزير الملك سقطت حكومة الرئيس سعد الحريري الذي قطع زيارته إلى واشنطن وعاد إلى لبنان. كانت تلك الإستقالة خروجاً من التسوية التي حصلت في الدوحة بعد عملية 7 أيار التي يهدد بها أنصار “الحزب” اليوم تماماً، كما اعتبرت استقالة الرئيس سعد الحريري خروجاً من التسوية التي كانت في أساس انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية.
7 أيار خطوة في خطة
في 7 أيار 2008 لم يتردد “الحزب” في استخدام السلاح في الداخل ليحمي السلاح، كما كان أعلن أمينه العام السيد حسن نصرالله. عندما فشل في فرض استقالة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وفي منع استكمال التحقيق الدولي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري والحؤول دون قرار إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بها، هاجم بيروت الغربية والشوف وعاليه وفرض الذهاب إلى الدوحة حيث تمت التسوية. نتيجة ذلك كان انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية واستمرار فؤاد السنيورة رئيساً للحكومة ولكن مع الإمساك بالثلث المعطل الذي تمّ استخدامه لإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري لاحقاً. لماذا استخدم هذا الخيار؟ لأن نتيجة انتخابات العام 2009 أتت أيضاً بأكثرية مؤيدة لقوى 14 آذار أوصلت الحريري الإبن إلى السراي. لم تكن حسابات “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” تتوقع ذلك. كان هناك رهان على أن يحصلا على الغالبية النيابية ويشكلا الحكومة التي يريدانها وبالتالي يحكمان من خلالها. فالسيد حسن نصرالله كان أعلن قبل تلك الإنتخابات أن من يحصل على الأكثرية فليحكم. والعماد عون كان أعلن أن حكومة هذه الأكثرية الجديدة هي التي تمسك بالسلطة وتضعه في موقع الحاكم، بعدما وصل إلى قصر بعبدا الرئيس ميشال سليمان.
قرار إقالة الرئيس سعد الحريري وحكومته كان خطوة في خطة أكبر. عندما دعا الرئيس ميشال سليمان للإستشارات النيابية بعد أيام على الإقالة كانت النتائج تذهب باتجاه إعادة تكليف الرئيس سعد الحريري. فجأة نزلت القمصان السود إلى الشارع. تأجلت الإستشارات أياماً قبل أن تنتقل الأكثرية إلى تسمية الرئيس نجيب ميقاتي، بعدما تبدلت اتجاهات التصويت لدى النائب وليد جنبلاط ونواب كتلته. كانت تلك نتيجة القمصان السود. ولكن بعد حادث قبرشمون في حزيران الماضي هل لا زالت القمصان السود قادرة على التأثير؟ يومها أي قبل تسعة أعوام تقريباً كانت خطة تسمية ميقاتي جاهزة للتنفيذ خلال ايام، وإن كان انطلاق الحرب في سوريا قد أجّل التشكيل خمسة أشهر. اليوم بعد استقالة الرئيس سعد الحريري لم يجرؤ “حزب الله” والرئيس ميشال عون على الذهاب إلى خيار المواجهة. فتجربة حكومة ميقاتي كانت مخيبة وفاشلة ووصلت إلى نتائج سيئة على “الحزب” وقادت إلى حل وسط بتسيمة تمام سلام لتشكيل الحكومة.بعد إعلان الرئيس سعد الحريري أمس عزوفه عن قبول تسميته رئيساً مكلفاً تشكيل حكومة جديدة لفتح الطريق أمام اختيار شخص آخر غيره على قاعدة “ليس أنا بل أحد آخر”، هل يوظف “حزب الله” التهديد بـ7 أيار جديد لاختيار حكومة مواجهة أم يبقى تحت سقف ما يقبل به الحريري وما يباركه، علماً أن الحريري تمسك بمطلب حكومة الإخصائيين وحدد طريقة الخروج المناسبة من هذا الوضع؟ وهل يعتبر أن بإمكانه أن يضع الجميع أمام خيار الحرب أو القبول بما يريده؟
هل يقبل عون؟
لا شك في أن عملية 7 ايار 2008 كانت بعد أكثر من عام ونصف العام على حصار السراي، وبعد حرب تموز 2006 والقرار 1701 وفي ظل فراغ رئاسي وحكومة تصريف أعمال، وقبل أن تكون هناك حرب في سوريا وقبل أن يشارك “الحزب” فيها ولم يكن هناك انهيار اقتصادي ولا ثورة في الشارع ولا عقوبات أميركية على “حزب الله”. كل ما حصل بعد 7 أيار أسس لهذا الإنهيار وكان نتيجة له ولمحاولة قلب الموازين السياسية التي قامت بعد 14 آذار 2005. اليوم هل يقبل الرئيس ميشال عون بـ7 أيار جديد؟ هل يقف الجيش على الحياد ويسمح باستباحة الأمن؟ هل يستطيع “حزب الله” أن يقاتل أهل بيروت والجبل وأن يحرر كل ساحات الثورة من صور إلى كفررمان وساحة الشهداء وطرابلس؟ وإذا كان يملك مع الرئيس ميشال عون ترف الخروج من هذا الوضع ومن الإنهيار عبر حكومة من لون واحد، فلماذا كان هذا التمسك بالرئيس سعد الحريري أو بمن يسميه؟
وإذا كان “الحزب” يمكنه أن يمنع عبور الثورة واجتياز الأزمة من خلال حكومة أخصائيين مستقلة إنقاذية، هل يمكنه أن يتحمل وحده مسؤولية خيار المواجهة؟ وهل يراهن على أن التهديد بـ7 أيار جديد يغنيه عن تكرار العملية ويخرج الثورة من الشارع إلى المنازل ويوقف الإنهيار؟ وهل يدرس “الحزب” مثلاً بتمعن نتائج ما حصل في قبرشمون؟ وهل يعتقد أن التهديد يضع الجيش وقائده على الحياد؟ ربما هي المرة الأولى التي يواجه فيها “الحزب” مثل هذا الوضع لأن المبادرة ليست في يده والبقاء في وضعية الدفاع عنده صعب والهجوم أصعب والمراوحة في المكان خطرة، على رغم أن الثورة لم تطلب ولا مرة نزع سلاح “الحزب” ولم تطلب خروجه من سوريا ولا طلبت تغيير الحكم في إيران. كل ما فعلته أنها جعلت “الحزب” يضع نفسه في موقع المواجهة معها والدفاع عن نفسه.