كتبت جمال غصن في صحيفة “الاخبار”:
وفقاً للمادة الرابعة من الدستور اللبناني، لبنان الكبير جمهورية عاصمته بيروت. الذكر التالي والأخير لبيروت في الدستور هو في المادة 26 والتي تنصّ على أن بيروت مركز الحكومة ومجلس النواب. لن نتوقف عند عقدة النقص المتمثلة بالإصرار على تسمية لبنان بالكبير رغم صغره المثبت جغرافياً، فالموضوع اليوم هو عاصمة هذا الوطن الكبير ومركز حكومته ومجلس نوابه. في الشعر والأغاني بيروت ست الدنيا وقلب صباح الضايع في الصنايع وصخرة كأنها وجه بحّارٍ قديمِ وغيرها من سطور الأسطرة التي يهواها الشعراء، لكن في نهاية المطاف بيروت مدينة أصبحت ما هي عليه اليوم، لأنها عاصمة جمهورية صغيرة اسمها لبنان. إلى جانب الحكومة ومجلس النواب، بُنيت مدارس وجامعات ومستشفيات وأعمال ومصارف ومطار عندما باتت للناس أجنحة. لكن كل هذه المنشآت لا تنبت وحدها إذ تحتاج إلى بشرٍ ليبنوها ويقطنوها ويشغلوها، وطبعاً المسألة هنا ليست معضلة البيضة أو الدجاجة، فبشر المدينة حتماً سبقوا حجرها.
الحياة في المدينة هي التفاعل بين بشرها، وكلّما زاد هذا التفاعل ووصل إلى أفكار مشتركة وذاكرة جماعية كلّما تكرّست تلك كحقائق تاريخية. بشكل أبسط، بيروت اليوم هي سكانها، كل سكانها يعني كلهم، وعمالها وزوّارها، هذه بيروت الحقيقية. لنجول في بيروت هذه من رأسها إلى وسطها وأطرافها. ذكرياتي الأولى في بيروت تتكوّن بشكل كبير من شارع الحمرا في الثمانينيات، والذي كان بالنسبة إليّ جنة المجلات التي لم تكن تصل جميعها إلى شتورا حيث كنت أعيش، سامر وأحمد وماجد والعربي الصغير وأوتوسبور وأولمبياد الكرة ولولو وطبوش والرجل الوطواط وطبعاً سوبرمان. كيوسكات المجلات ما زالت موجودة، لكنّ أبا إبراهيم، صاحب أحدها، توفي منذ سنتين أو ثلاث. له نكتة كان يردّدها دائماً عن أن أحد مساجد بلدته برجا يحشد أكثر من الآخر لأنه يقدّم حسومات على الصلوات، ركعتان بدل الأربع. في كراكاس، تيريز تمنع أي شخص من لمس جدران حانة الرفيق نايا المزيّنة بالصور والعملات والقصاصات والأسلحة، تريد أن تحافظ عليها كما تركها أبو إيلي. أبو عزت بائع اليانصيب يقارب التسعين من عمره ولا يزال يعمل يومياً، وهو عاصر بيار الجميّل الجدّ، الصيدلي الذي كانت صيدليته قريبة من محمصة بن يونس الأصلية في باب إدريس. من النوستالجيا إلى الحاضر، محمصة بن يونس الحالية يعمل فيها هاني وعبد وصدام وعلي، كلهم سوريون. لا أذكر ذلك من زاوية الإكزينوفوبيا الباسيلية، ولكن لأؤكّد أنهم هم المدينة الحقيقية (هامش اقتصادي، أرتاد المقهى نفسه كل صباح منذ خمسة عشر عاماً، وارتفع سعر فنجان القهوة من 750 ليرة إلى 2500 ليرة في هذه الفترة. معدل الدخل في لبنان لم يرتفع بهذه النسبة). خالد ومرام طفلان سوريان اعتزلا بيع الورد وانتقلا إلى العمل في صالون للحلاقة، ولكن خالد ترك عمله لأن صاحب المحل كلّمه بلهجة لا يرضاها. أما الأطفال الذين لم تقسُ عليهم الحياة إلى درجة عمالة القصّر، بل يلعبون في الشارع في غياب الحدائق والملاعب العامة، فإن أغلبهم أيضاً سوريون ومنهم من يلعب كرة القدم في أغلى ملعب كرة في المدينة، وهو باحة مبنى ثلاثيّ الأبراج على شارع السادات لم يفلح أصحابه في بيع إلا بضع شقق منه، إذ تبيّن أن الشقق المليونية هذه، بالإضافة إلى انعدام الشرفات والمناظر الكاشفة فيها، تعاني من النشّ. قد لا يفاجئكم أنّ فؤاد السنيورة شريك رئيسي في هذا المشروع. معظم سكان المدينة أتوها من الشرق، فمدينة بيروت لا غرب لها إلا البحر.
يكثر الزوار العراقيون في هذه الأيام، كما في السنين الماضية، منذ أن خفت نجم السائح القادم من الجزيرة العربية. بعضهم رجال أعمال لكن في الحقيقة أجهل ما يعملون. وكثرٌ يزورون بيروت للسياحة الطبية، فمستشفيات المدينة الخاصة هي من الأفضل في المنطقة، وهذه نقطة قوة حقيقية للمدينة وإن كانت تطاول المقتدرين شرقاً دون غيرهم. قد يكون ذلك نتيجة الضغط المجتمعي الدائم لتخريج أطباء. وربما لو ضغطت أمهاتنا وآباؤنا باتجاه دراسة الاقتصاد لما كنّا مفلسين اليوم. في رأس بيروت أيضا سورٌ يفصل برجها العاجي عن باقي المدينة، لكنّ للجامعة الأميركية كلاماً يطول في وقت لاحق.
طبعاً هناك زوار من الغرب أيضاً، وأكثر ما يستهويهم في بلادنا هو حمصنا المخفوق مع الطحينة. معظمهم لا يدركون أن هذا الطبق هو أبسط أطباق الحمص في مطبخنا وأن للحمص ألف طريقة تحضير، وما إن يكتشفون المسبّحة والبليلة والفتّات على أنواعها حتى يدمنوا بيروتنا ومطبخها «الشرقي». لكن هذه الأطباق التي يمتاز بها القاووق والسوسة وملك الفول وأبو حسان وأبو عيسى الفوّال والبروفيسور تغيب بشكل مريب عن المنطقة الممتدّة بين جسر الرينغ وردم النورماندي، والتي تُسمى زوراً وسط بيروت. كان وسط بيروت في ماضٍ يقال عنه بأنه كان مشرقاً حين كان بيار الجميل الجد يشتري اليانصيب من أبي عزت، وكانت المنطقة وسطاً عندما تناتشتها ميليشيات الحرب ومنها طبعاً ميليشيا بيار الجميّل الفاشية. لكنها منذ أن دخلت عهد شركة المقاولات باتت ركاماً وأرقاماً، أسهماً بقيمة اسمية وأرباح وهمية، ومساحات خالية وجدران لا تُؤوي إلا الغبار. وحده العفو الضريبي لشركة سوليدير حقيقي. وُعد لبنان والعالم في تلك الحقبة المشؤومة بازدهار اقتصادي تحت عنوان استدن تنمُ. إنه الوعد نفسه المسمّى الحلم الأميركي الذي يُغرق شباب الولايات المتحدة في ديون قروض التعليم التي تُثقل كاهلهم طوال سنيهم المنتجة. النيوليبرالية الأميركية هي الحلم الأميركي على مستوى الدول النامية.
أسهم، أرباح، أرقام، مساحات، فوائد، إيجارات وقروض، لكن ماذا عن البشر وذاكرة هذا الوسط؟ الحانات على سقف مبنى النهار أو البيال يتغير اسمها كل صيف حسب الشركة التي تستحوذ عليها. مطاعم فرنشايز يملك معظمها شركة واحدة بمستثمرين من الزمرة نفسها التي تتحكّم بثراء البلد. لا يوجد بائعو لوتو ولا جرائد. مبانٍ وممتلكات بقيم وهمية بلا ناس وبلا حمص ليست بمدينة. وهي أصلاً لم تُبْنَ لتكون مدينة، فهي بنيت لتكون جزءاً من حقيبة استثمارية. يقول الفيلسوف الماركسي هنري ليفيبر إن الأرستقراطية البورجوازية الحديثة لا تقطن المدينة، بل هم يتنقّلون من فندق فاخر إلى فندق فاخر ومن قصر إلى قصر ويديرون الأساطيل والدول من على متن يخت (كتلك اليخوت الراسية عند خليج مار جريس بأمان تام من العنف الثوري والمولوتوف). لذلك لا تهمهم المدينة ولا يأبهون أن كانت مدينتهم وهمية إن كانت مجدية لهم اقتصادياً. الكارثة هي أنه حتى في ذلك فشلوا.
لكن يوجد حل ثوري لإعادة الحياة إلى المدينة الوهمية التي حاول أن يبيعها رفيق الحريري وفشل. فرض علينا الفكرة وفشل في بيع العقارات، وطبعاً الازدهار الموعود كان كذبة. أيعقل أن مشروعاً مُعفىً من الضرائب سلب أراضيَ وعقارات يخسر تجارياً؟ هو عقلٌ تجاريٌّ فذٌّ حقاً. الحل الثوري ليس بهتاف آلاف الحناجر أمام مبانٍ خالية في انتظار أن يطل أحد من الشباك. لن يطل لا ملك ليتنحى ولا حبيبة ولا حتى رابونزل المسجونة وحيدة في ساحة البرج. فقط مبنى شاكر وعويني المأهول بمحطات البثّ الفضائي يرى المحتجين وقد سئم نقل الصورة ذاتها يومياً.
لا بدّ من أن تُحرّر بيروت «الشرقية» الحقيقية بيروت المحتلة من وهمها. لا بدّ من إشغال الشقق والمكاتب والمحالّ ليعود إلى بيروت وسطها. إشغال العقارات الشاغره المعروف بالـ(Squatting) هو حقّ ويعيد القيمة الاقتصادية إليها، فهي الآن مهما كذبت أرقام شاشات المصارف والمكاتب العقارية تساوي صفراً. هناك سوابق لإشغال الشغور في كل أنحاء العالم وأثينا أقربها إلينا. فالحجر لا قيمة له من دون بشر يبثّ الحياة فيه. في تورينو الإيطالية مثلاً حوّل المشغّلون معامل وقصوراً ملكية خالية إلى مساحات منتجة فنياً وثقافياً واقتصادياً. تحويل شقق خالية في وسط بيروت إلى وحدات سكنية تُؤوي عائلات من النازحين الذين ينتظرون برد الشتاء في خيمهم ليس منّة بل أقلّ الأخلاق. افتتاح مطعم فتة وفرن مناقيش في محل كان طسّ الغرافيتي فيه الحركة الوحيدة التي يراها من سنين ضرورة غذائية لإعادة الحياة إلى المدينة. الحل الثوري الوحيد هو التحرّر من عبء النموذج الاقتصادي الوهمي الذي فرض علينا ويعطي الأولوية للحجر على البشر. نسف وهم سوق العقارات (وحكم المصرف) من خلال فرض ضرائب وقوانين إشغال وحوافز تشغيل له حسنات عدة نناقشها لاحقاً ومنها استقطاب العملة الصعبة جداً هذه الأيام.
الشرق الذي ينبغي أن ننفتح صوبه ليس في البوكمال ولا يكون بخصخصة شركة الخلوي لشركة هواوي بدلاً من شركة دويتشه تيليكوم، وإن كانت تكنولوجيا الاتصالات الصينية تفوق تلك الألمانية. «الشرق» الذي ينبغي أن ننحاز إليه هو سكان المدينة والأطراف الذين صمدوا في وجه سياسات اقتصادية ومالية عدائية على مدى ثلاثة عقود، وهذا يبدأ عند الحدود المأهولة لوسط عاصمة الوهم، أي في الجميزة والقنطاري وزقاق البلاط والخندق الغميق طبعاً.