كتب ابراهيم الامين في صحيفة “الاخبار”:
كيف تكون السلطة مدركة لحجم الأزمة؟ الأمر، هنا، لا يتعلق بغضب الناس فقط، بل بطبيعة الأزمة نفسها. وفي كون السياسات التي اتُّبعت في السنوات الماضية أمعنت في إفقار الناس ونهب الدولة وانهيارها. وهي سياسات وضعتها قوى وجهات، ونفّذتها قوى وشخصيات وإدارات. وأيّ تغيير يتطلّب تعديلات جوهرية في مقاربة التشكيلة الحكومية الجديدة.
ما نعرفه عن مداولات فريق السلطة حول الملف الحكومي، خلال الأسبوعين الماضيين، يشير بصراحة إلى أن المكابرة لا تزال حاضرة بقوة لدى قوى رئيسية كثيرة. وما نعرفه أن الذعر الذي أصاب كبار المسؤولين، في الأسبوعين الأولين من الحراك الشعبي، تراجع كثيراً ووصل الى حدّ أن المداولات الجارية لا تقف كثيراً عند خاطر الناس، بل حتى التصرّف وكأن الحراك قد مات، علماً بأنه أُصيب بعجز كبير، وهو يعاني أزمة جدية ينبغي حلّها ليتمكّن من التعافي والانطلاق بطريقة أخرى وروحيّة مختلفة، وحتى شعارات مختلفة. أساساً، من سعى الى خطف الحراك من اليوم الأول، لم يكن همّه أن يصل الحراك الى فرض تغييرات جوهرية على أداء السلطة، بقدر ما كان مهتماً بتحسين شروطه التفاوضية مع خصومه. وكما المكابرة التي يعيشها أركان في السلطة، فإن الإنكار الساكن في عقول المتحجّرين من ناشطي الحراك يؤدي الى النتيجة ذاتها، وخصوصاً عندما تعاظم الوهم لدى هؤلاء حيال حجم الحراك وقوة تأثيره، فكيف والحال قد وصلت أخيراً الى مستوى يدار فيه الشارع من خلال مجموعات تتبع فعلياً لقوى السلطة. وإلا ما الذي يفسّر أن قاطعي الطرقات وأصحاب الغزوات عليهم وعلى الساحات هم من نسيح قوى السلطة المتخاصمة نفسه، من تيار المستقبل والقوات والكتائب الى الحزب الاشتراكي وأمل ومناصرين لحزب الله؟
عملياً، نحن الآن أمام مأزق كبير. ولا يبدو أن من في السلطة قد وصل الى آلية للفصل بين ملفَّي متطلبات مواجهة الأزمة الداخلية الناجمة عن انهيار اقتصادي وفساد مستحكم بالدولة من جهة، ومواجهة العناصر الخارجية من الأزمة التي تستهدف، أولاً وأخيراً، قوة المقاومة وحلفائها. وهذا يفسّر بعض ضروب الجنون التي شهدناها في معرض البحث في الحل الحكومي.
مثلاً، تصرّف جبران باسيل على أنه من يقرّر (باسم الرئاسة وبالتعاون مع حزب الله) اسم المرشح لرئاسة الحكومة، حتى ولو تم ذلك بالتفاهم مع سعد الحريري. وهو، عملياً، يتصرف على أساس أنه الناخب الرئيسي في ملف تأليف الحكومة. ويعمد، تالياً، الى وضع لائحة مطالب بشأن طبيعة تأليف الحكومة وتوزيع الحقائب والأسماء، من موقع أنّ شيئاً لم يحصل، كالإصرار مثلاً على توزير سليم جريصاتي. وفي السياق نفسه، يلاقيه الرئيس نبيه بري الذي لا يمانع بتسليم وزارة المال الى شخصية شيعية أخرى يختارها هو، لكنه يريد بقاء علي حسن خليل وزيراً في الحكومة. وهي حال وليد جنبلاط الذي يريد الإبقاء على وائل أبو فاعور على الأقل، أو أن يسمّي نائباً من كتلته يعرف رفع الصوت السياسي داخل الحكومة إن تقررت عودته إليها. بينما لا يهتم سعد الحريري بمن يمثله من أسماء، بل بما يشغل باله حيال الحقائب التي يعتقد أنها يجب أن تكون بعيدة عن القوى السياسية، من خصومه لا حصراً، فيما يواصل التركيز على آليات عمل تتطلب صلاحيات تشريعية خاصة لضمان تنفيذ طلبات الخارج حيال ملفات الخصخصة وإصلاح القطاع العام.
محمد الصفدي لم يكن مؤهلاً أصلاً لقيادة هذه المرحلة. لكن بهيج طبارة يملك رصيداً مقبولاً عند غالبية سياسية في لبنان، وقد يكون الحريري آخر المؤيدين له. لكن أريد لطبارة أن يكون رئيس حكومة تمثّل نسخة منقّحة عن الحكومة المستقيلة. عملياً، قيل له إن الحكومة التي عليك تحمّل مسؤوليتها لن تختلف عن سابقتها لجهة توزيع الحصص والأولويات وحتى بعض الشخصيات. وهذا كان كافياً لهروبه، وخصوصاً أن الرجل سعى، خلال أيام قليلة من البحث معه، الى التواصل مع جهات في المعارضة للوقوف على تصورات تتعلق بالمعالجة الملحة للأزمة المالية والاقتصادية في البلاد، لكن جهود أركان السلطة تضافرت على إطاحته.
اليوم يجري الحديث عن سمير الخطيب. لا أحد من اللبنانيين يعرف مزاج الرجل وطبيعته. وما لا يعرفه أهل السلطة أن سيرة نجاح في القطاع الخاص لا تعدّ عنصراً حاسماً في قدرة هذا الشخص على إدارة دولة فيها هذا القدر من التعقيدات السياسية. صحيح أن الخطيب، وحتى طبارة وغيره، ليسوا في موقع من هو قادر على تهديد مصالح المقاومة الاستراتيجية. لكن السؤال يتعلق أيضاً بقدرة هذا المرشح أو ذاك على إعادة وصل ما انقطع مع الشارع، وعلى خلق مناخات إيجابية تتيح العمل الإنقاذي بمعزل عن النتيجة النهائية. وحتى اللحظة، لا يبدو أن آلية البحث مع الخطيب، من قبل جميع أركان السلطة، تقود الى استنتاجات من شأنها طمأنة الناس الى أننا على مشارف أيام أفضل.
في غضون ذلك، سيكون الشارع هو المسرح الوحيد للتفاوض. ما حصل في الأسبوع الأخير جعل «فقراء من لبنان»، وافق بعضهم على أن يكونوا على شكل «زعران قوى السلطة» يمسكون بزمام المبادرة. ولكي لا يلتبس الأمر على أحد، فإن هؤلاء هم الذين يتولّون عملياً قطع الطرقات والقيام بالأعمال العنيفة غير الموجّهة منذ اليوم الأول للحراك. وهؤلاء، بعضهم موجود داخل الحراك أصلاً. لكن من يتولّون تنفيذ مهمات تخدم صراعات أهل السلطة، هم من يخرجون فجأة من خلف الجدران، يقطعون طريقاً ويرشقون مارّة ويشتمون هذا أو ذاك من رموز المتخاصمين. والتدقيق الذي لا يحتاج الى بحث علمي، يقودنا سريعاً الى أنهم مجموعات تتبع عملياً لتيار المستقبل ووليد جنبلاط وحركة أمل والقوات اللبنانية وأشبال فتى الكتائب، الى جانب مجموعات أخرى تعمل منذ وقت طويل مع الأجهزة الأمنية على اختلافها. بينما لا يزال من في الحراك يخجل من إدانتهم، ويفكر أيضاً في طريقة استغلالهم. ومن يصرّون على هذا الموقف، هم فعلياً جماعة الخارج الذين لا يهتمّون هذه الأيام سوى بالتدقيق في الأخبار عن أسماء من يفترض أن يمثل الحراك في الحكومة الجديدة.
اللعب في الشارع هواية خطيرة، وتصبح أكثر خطورة عندما يتداعى الاقتصاد أكثر، وعندما تكون قوى السلطة في موقع المكابرة. لكن خطره يزداد عندما يواصل أهل الحراك إنكارهم لوجوب تنظيف شارعهم من المشعوذين والزعران والمنتفعين والمراهقين من عملاء الخارج. وإذا لم يرفع الصوت في وجه هؤلاء، وبمستوى الصوت نفسه في وجه السلطة، فسنكون أمام أيام عصيبة لا طاقة للناس على تحمّلها، وستسرّع في نهاية الحراك، بينما تبقى السلطة تتسلّى بنا الى حين قيام ثورة خالية من سمّ رجالات الـ«إن جي أوز» وأفكارهم، وهو السمّ الذي يبدو أنه دخل أجساد الأحزاب لا النقابات فقط!