… «الأرض» تَغَيّرتْ «لكن ذهنية السلطة لم تتبدّل…» الأرض تَحَرَكَّتْ «تحت أقدام الائتلاف الحاكم لكنه يدير ملفَ تشكيل الحكومة الجديدة وكأن الموجبات التي أَمْلتْ استقالةَ الرئيس سعد الحريري استجابةً لمطالب «ثورة 17 أكتوبر» كانت مجرّد «هزّة وعَدِّتْ» ويمكن العودة إلى «اللعب» على طريقة BUSINESS AS USUAL.
خلاصةٌ تختصر من خلالها مصادر سياسية مطلعة في بيروت ما يحكم المشهد اللبناني منذ إعلان الحريري استقالته قبل 34 يوماً وما أعقبها من «احتجاز» عملية تكليف الشخصية التي ستترأس الحكومة العتيدة تحت عنوان معلَن هو «وحدة مساريْ» التكليف والتأليف، ولكنه يختزل في الواقع كل التعقيدات التي تعترض هذا الملف العالق حتى الساعة عند كيفية التوفيق بين استحالتيْن:
* الأولى تشكيل حكومة لا يترأسها الحريري أو يمنح مَن سيشكّلها «عباءته» على أن يشارك تياره («المستقبل») فيها، وهي الاستحالة التي تكتسب «صمودها» من تَمَسُّك «حزب الله» حتى الآن بها لاعتباراتٍ واقعية داخلية كما خارجية.
* والثانية استحالة قيام حكومة بشروط الحريري الذي يصرّ على تشكيلة من اختصاصيين مستقلّين يرى أنها الوحيدة القادرة على «إخماد» غضبة الشارع الذي لا يستكين، وتوفير مقومات «إدارة محرّكات» العودة بالسفينة اللبنانية من المسار الذي يشي بـ«الاصطدام الكبير» الذي بدأ العدّ العكسي له بـ«جبل نار» يشكّله الواقع المالي – الاقتصادي ومخاطر ترْك البلاد مشرّعة على استقطاب متصاعد في الشارع.
وفيما لم تبدّد تطورات الأمس الغموض في ما خص عملية وضْع الملف الحكومي «على السكة»، خَطَفَ الأضواء «أحد الوضوح» الذي أقامتْه «الثورة» التي مضت في يومها الـ46 في حِراكها العابر للمناطق (في الجنوب والشمال والبقاع والجبل) وصولاً إلى قلب العاصمة وتحديداً «ساحة الشهداء»، وسط بروز اندفاعةٍ نحو مطالباتٍ بإسقاط رئيس الجمهورية ميشال عون عبّرت عنها مسيرةٌ حملتْ هذا العنوان في طرابلس، في موازاة تكرار مشهدية «شارع مقابل شارع» على طريق القصر الجمهوري في بعبدا حيث تجمهر عدد كبير من المناصرين لعون (من «التيار الوطني الحر») بوجه تظاهرة دعت إليها مجموعات من الانتفاضة الشعبية في إطار الحضّ على الإسراع بتحديد موعد للاستشارات النيابية المُلْزِمة لتكليف رئيس الحكومة العتيدة.
وقد تحوّلت «طريق القصر» أشبه بثكنة أمنية من إجراءات للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، وسط أجواء من التوتر الكبير سادت بعد تسجيل تدافُع وتلاسُن بالهتافات وكر وفرّ بين المؤيدين لرئيس الجمهورية والعدد غير الكبير من المتظاهرين (من حزب «سبعة» خصوصاً) ولا سيما بعدما حاول بعض مناصري «التيار الحر» اجتياز «جدار الفصل» الذين أقامه الجيش بين الطرفين عند إحدى النقاط في محيط هذا الطريق ما أدى إلى احتكاك مع العسكريين الذين منعوا «وصول» الداعمين لعون إلى متظاهري الجهة المقابلة.
وفي رأي الأوساط المطلعة، أن نجاحَ الانتفاضة الشعبية مرة جديدة أمس في «اختبار الشارع» (على امتداد لبنان) الذي لم تفرْمل اندفاعتَه الأحوالُ الجويةُ الماطرة، شكّل مؤشراً إضافياً إلى متانةِ «حائط الصدّ» الأخير أمام أيّ محاولةٍ من السلطة للالتفاف على مطلب حكومة التكنوقراط المستقلّين التي تمهّد لانتخابات نيابية مبكّرة، رغم الاقتناع بأن تحالف فريق عون – «حزب الله» لن «يرْفع الراية» ويسلّم بمنْعه من «ممارسة» أكثريته البرلمانية على مستوى الحكومة وشكْلها وتوازناتها، وسط تأكيد مصادر قريبة من فريق 8 آذار لـ«الراي» أن الحزب ما زال يمتْرس عند معادلة «إما الحريري رئيساً للحكومة بشروطنا (تكنو – سياسية) أو لا حكومة»، الأمر الذي يزيدُ من علاماتِ الاستفهام حول كيفية ترجمة هذه المعادلة التي تفسّر السقوط المتوالي «رسمياً» أو ضمنياً للأسماء التي تُرشَّح لترؤس الحكومة كبديل عن زعيم «المستقبل».
ولا تتوانى الأوساط نفسها عن اعتبار ما يجري، ورغم محاولات بعض المواقف ضخّ مناخات تفاؤل بإمكان أن يحمل الأسبوع الطالع إيجابيات على صعيد تحديد موعد الاستشارات النيابية المُلْزِمة، من ضمن عملية «إنهاك» متبادَل على ضفّتيْ حكومة التكنوقراط والتشكيلة التكنو – سياسية، مُلاحِظة أن اسم سمير الخطيب الذي لم يُعلن «احتراقه» رسمياً والذي طُرح غداة إعلان الحريري عزوفه عن القبول بأي تكليفٍ له، صار أشبه بـ«واجهةٍ» تدور تحتها مناوراتٌ لـ«نفْض اليد» من المسؤولية عن استمرار المماطلة في إطلاق مسار التكليف في ظل بقاء «متاريس» الشروط والشروط المضادة على ارتفاعها.
وإذ اعتبرت هذه الأوساط أن المرحلة الدقيقة التي يمرّ بها لبنان تتطلّب رئيساً للحكومة يكون «مُجَرَّباً» في ما خصّ الإدارة السياسية للبلاد المدجَّجة بـ«الألغام» و«الأفخاخ» وتالياً أن يكون خاض «معمودية» هذه الإدارة أقلّه على أحد مستويات التعاطي مع الشأن العام، وهو ما لا ينطبق على الخطيب وقد تكون هذه من «نقاط ضعفه»، لاحظتْ أن لقاء الأخير أول من أمس مع رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل لن يساعد في «تبريد» الأرضية وتضييق رقعة التباينات حيال الملف الحكومي وذلك في ضوء أمريْن:
* أوّلهما أن باسيل، وفق معلومات متقاطعة يتعاطى مع مفاوضات التكليف والتأليف بما يوفّر لتياره حصة وازنة في الحكومة سياسياً وعلى مستوى الحقائب التي يريد أن يتولّى إحداها (الداخلية والخارجية)، هو الذي يُعتبر من أكثر الأسماء استفزازاً للشارع والذي يرفض الحريري أن يعود إلى الحكومة ولو في تشكيلةٍ لا يترأسها هو ولا يريدها (للتشكيلة) أن تكون أيضاً محكومةً بعملية المحاصصة السابقة التي جعلت الحكومة المستقيلة وحكوماتٍ قبلها تحمل في طياتها بذور تعطيلها.
* وثانيهما أن لقاءات باسيل مع المرشحين لرئاسة الحكومة باتت تثير انتقادات مكتومة وأخرى معلنة لما يُعتبر «امتحانات» يَظْهر رئيس «التيار الحر» وكأنه يُجْريها لهؤلاء، في موازاة تصاعُد الاعتراضات على أخذ التكليف «رهينة» التأليف بهدف إمساك تحالف عون – «حزب الله» بورقة التفاوض من موقع قوّة لبلوغ حكومةٍ بشروطهما، وصولاً إلى طرْح قريبين من فريق رئيس الجمهورية معادلة أنه ما دام الرئيس المكلف غير محكوم بمهلة زمنية لتأليف الحكومة فإن رئيس الجمهورية غير محكوم بمهلة للدعوة إلى الاستشارات النيابية، وهو ما اعتُبر من رافضي هذا المنطق مخالِفاً للدستور وتعدّياً على صلاحيات مجلس النواب والرئيس المكلف الذي يعود إليه التشاور مع النواب من ضمن استشارات غير مُلْزِمة لتأليف الحكومة العتيدة بالتوافق عندها مع رئيس الجمهورية.
وفيما تشي هذه المؤشرات بأن أفق الملف الحكومي ما زال مقفلاً رغم الضغوط الدولية على السلطة للإسراع بقفْل «باب الريح» الذي يشكّله الاستمرار بترْك البلاد مفتوحة على أزمة سياسية في غمرة «عصْف» الخطَر المالي، تخشى الأوساط المطلعة من أن يكون لبنان عالقاً في دائرة من المراوحة القاتلة وسط أسئلة عما إذا كان سيكون متاحاً إيجاد نقاط تَقاطُع تسمح بعبور «المنطقة الحمراء» وهل ما زال «لبن العصفور» الذي كان أشار رئيس البرلمان نبيه بري قبل فترة إلى أنه قُدّم للحريري «صالِحاً» كمدخل لحلّ، علماً أن «مكوّناته» كانت تقوم على حكومة من تكنوقراط مطعّمة بسياسيين بلا حقائب، وكيف سيتم القفز فوق اعتراض الشارع «المعروف» عليها؟