كتبت د. سهام رزق الله في صحيفة “الجمهورية”:
بعد أن كانت العناوين السياسية طاغية على كلّ ما عداها في البرامج الانتخابية أو اللقاءات الإعلامية أو حتى الجلسات الاجتماعية، في ظلّ غياب، بل تغييب البحث الاقتصادي عن الواجهة، أصبح فجأة الاقتصاد في الصدارة، في حين، من العبث قراءته بمعزل عن السياسة.. الاقتصاد ليس على جزيرة معزولة، وترابطه واضح بالمحطات السياسية المؤثرة فيه.. فكيف تبدو الصورة عبر أبرز المراحل؟
بداية من المفيد معرفة أنّ لبنان منذ استقلاله عام ١٩٤٣ عرف نموذجاً اقتصادياً رائداً جعله قبلة أنظار العالم شرقاً وغرباً، وأسس المصرف المركزي من أبرز احتياطات الذهب عالمياً، ولم تعرف المالية العامة عجزاً مالياً ولا حاجة الى الاستدانة حتى بعد السنوات الأولى من بدء حرب ١٩٧٥-١٩٩٠، وتخطى إنتاج الكهرباء حاجات لبنان وسمح بتصدير الفائض إلى سوريا.
أما رصيد الميزان التجاري (الفارق بين التصدير والاستيراد) فلطالما كان في عجز مستمرّ، إلاّ أنّ ميزان الرساميل كان دائماً في فائض يغطي العجز التجاري وأكثر ليحقق فائضاً في ميزان المدفوعات فيما كان سعر صرف الدولار قبل حرب ١٩٧٥ بحدود الليرتين ونصف الليرة.
طبعاً انّ حرب ١٩٧٥-١٩٩٠ أرخت بظلالها على الاقتصاد اللبناني، وشهدنا تضخماً صاروخياً بلغ ٤٨٧% عام ١٩٨٧ وارتفع سعر الدولار الى ٢٥٠٠ ليرة عام ١٩٩٢، وتوجّه القطاع الخاص اختيارياً نحو الدولرة وبدأت الاستدانة في منتصف الثمانينات قبل تضاعفها مع إعادة الإعمار بدءاً من عام ١٩٩٢ بالتزامن مع اعتماد سياسة ربط سعر صرف الليرة إزاء الدولار وتثبيته على ١٥٠٧،٥ منذ ١٩٩٧…
وتزايدت دولرة الدين العام حتى بلغت ثلثه، إذ أنّ الفائدة على سند الدين بالعملة الأجنبية أقل من الفائدة على السند بالليرة، كما أنّه يسهّل تسويق اليوروبوند عالمياً ولو بقي معظمه بالليرة أو بالدولار بين أيدي المصرف المركزي والمصارف التجارية التي أمّنت تمويل القطاع العام، وخصوصاً مع الهندسات المالية بعد أن تفاقم عجز المالية العامة وتزايد دينها ككرة ثلج… فيما التجاذبات السياسية دهورت المناخ الاستثماري ومنعت تحقيق النمو الاقتصادي الذي يسمح بالتفوّق على الدين العام.
أما الدور الاقتصادي للبنان فتغيّر والقطاعات الإنتاجية الصناعية، كما الزراعية، تدهورت ولم تعد تساهم إلّا بشكل طفيف في الناتج المحلي، وتمّ تشريع أبواب الاستيراد مع اتفاقات تحرير تجارة والمنافسة غير المتكافئة وتعريض أسواقنا للإغراق، وبقي التعويل محصوراً بالمغتربين ونفقات السياح والاقتصاد الريعي والاستثمار العقاري على أهميته.
وأُهمِلَ الاستثمار الثابت والمنتج الزراعي والصناعي الذي يؤمّن الحدّ الأدنى من «الأمن الغذائي» وهذا ما تمّ تلمّسه تباعاً مع الاستحقاقات الكبرى بعد تحرير عام ٢٠٠٠ والتحوّلات حتى عام ٢٠٠٥ وخروج سوريا من لبنان وحرب تموز ٢٠٠٦ التي أظهرت أننا بنينا اقتصاد سلام في حين نعيش في منطقة غليان، وتذكرنا بمقولة جبران خليل جبران «ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تنسج»..
وما لبثت أن انتهت الأزمة حتى عاودنا اللجوء إلى مؤتمرات الدعم والاستدانة ونسينا مجدداً الاستثمارات المنتجة الثابتة واستكمال الاعتماد الحصري على الخدمات (التجارية السياحية العقارية المصرفية..) مقابل ضعف الزراعة والصناعة والابتكار التكنولوجي ومحاكاة لغة العصر وحاجات توفير فرص العمل للشباب، ومن جديد وقع لبنان في تجاذبات سياسية وصراعات داخلية وخارجية أدّت بعد أحداث أيار ٢٠٠٧ إلى اتفاق الدوحة الذي تبعه بعض الاستقرار وبدأ النمو ليتخطى ٨% عام ٢٠١٠ وانخفض الدين العام الى الناتج المحلي الى أقل من ١٣٠% بعد أن كان تخطى ١٨٠%، وتحسنت الأوضاع واجتذب لبنان الأموال خاصة مع حكمة الجهاز المصرفي التي حفظته من الانخراط في الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨ ولم يحتج لبنان حتى الى رفع سقف الضمان على الودائع التي بقيت خمسة ملايين فيما كان طرح رفعها مراراً قبل إعادة أثارتها اليوم…. أما عام ٢٠١١ فعادت وتأزمت الأوضاع داخلياً وإقليمياً.
داخلياً سقطت الحكومة اللبنانية وإقليمياً بدأت الأزمة السورية، عملياً تدهور جوّ الاستقرار وبدأ المسار الانحداري على جميع المستويات، تراجع معدل النمو حتى أقل من الصفر بالمئة اليوم، فالاستثمار يتأثر بشكل أساسي بالمناخ الاستثماري قبل أيّ إجراءات تقنية يرتبط بها من معدلات فائدة ومستوى ضرائب وغيرها، وتزايد العجز المالي بشكل غير مسبوق وارتفعت الاستدانة وتدهور الميزان التجاري بشقيه (التجارة والرساميل).. فيما كانت تتقدم حركة الاستعانة بالمنظمات الدولية لتأمين الحدّ الأدنى من الحاجات الإنسانية للآلاف من النازحين القادمين. وقد أظهرت تقارير البنك الدولي الانعكاسات المباشرة وغير المباشرة لهذه الأزمة على اقتصاد لبنان، وصولاً إلى الجمود الكلّي للمؤسسات السياسية اللبنانية في ظلّ الفراغ الرئاسي بين أيّار ٢٠١٤ و تشرين الأول ٢٠١٦، وغياب إقرار الموازنات من عام ٢٠٠٥ حتى عام ٢٠١٧ مع إعادة انطلاق العمل المؤسساتي بعد التسوية الرئاسية عام ٢٠١٦، وإذا بلبنان يشهد الاهتزاز الحكومي الكبير في تشرين الثاني ٢٠١٧ ليعيد الى الواجهة من جديد شدّ الحبال على المشهد السياسي.
وطغت من جديد التحضيرات لانتخابات نيابية عام ٢٠١٨ على كلّ المواضيع على أمل انطلاق العمل التنموي بعدها، ولكن تضافرت عوامل الضغط قبل وخلال وبعد تشكيل الحكومة التي ما ان استلمت مهامها مطلع عام ٢٠١٩، وتأخر مؤتمر «سيدر» لدعم لبنان، وبدء التنقيب عن ثروة لبنان من الغاز والبترول، وتفاعلت الضغوط وتظهّرت تراكمات الاختلالات الاقتصادية وانفجرت أزمة تطايرت شظاياها، وأصبحت لملمتها مرهونة بحسن تشخيصها والفصل بين أسسها ومختلف أنواع اشتراكاتها بدون هلع وبقمّة الحكمة وبالوعي الدائم إلى أنّ فينيق لبنان يتخبط ولا يسقط، يحفر مغارة ليضيء منارة، ولا ينتفض إلّا ليولد من جديد بكلّ عزم وعنفوان وعلى أسس واضحة وصلبة ورؤيوية…