كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:
اختلط على اللبنانيين كثيراً التداخل بين الأسباب الداخلية لاشتعال الشارع اللبناني والعوامل الخارجية. في الواقع يمكن اختصار هذه «المعضلة» بالمعادلة الآتية: انعدام الثقة بالطبقة السياسية الحاكمة، والانهيار المالي والاقتصادي الحاصل، وتوسّع دائرة الفساد بوقاحة، ومعاملة الناس بازدراء، كانت من الأسباب الأساسية لانفجار الشارع، بتظاهرات واعتصامات لم تهدأ منذ حوالى الشهر ونصف الشهر.
لكن الحلول التي يمكن اعتمادها من أجل إخراج لبنان من أزمته السياسية الحادّة والانهيار المالي الحاصل، لا يمكن أن تحصل إلّا برعاية ومساعدة خارجية، وهنا عمق الأزمة.
فمن دون هذه المساعدة ينحدر لبنان أكثر فأكثر الى إنهيار مالي وخراب اقتصادي، وربما اهتزاز أمني، ما سيفتح الباب أمام تفكّك أوصال الدولة ومؤسساتها، التي تعاني أصلاً إهتراءً كبيراً في مفاصلها، ازدادت بقوة خلال السنوات الماضية. وهو ما يعني الحاجة الماسة الى ضخّ الأموال في الخزائن اللبنانية الفارغة، الى جانب المساهمة في إعادة تنشيط دورات العجلة الاقتصادية التي اصبحت شبه متوقفة بعد معاناة شديدة خلال المراحل الماضية. ولكن لهذه المساعدة الخارجية ثمنها بالنسبة للعواصم الغربية، وهو ما يجعل «حزب الله» قلقاً ومتوجساً، في ظل الصراع المفتوح بين ايران والولايات المتحدة الاميركية، والذي يطال نفوذ «حزب الله» في لبنان.
أضف الى ذلك، المشاريع المطروحة على ساحة الشرق الاوسط، والتي يتصارع حولها ثلاثة «محشورين»، وهم الرئيس الاميركي دونالد ترامب، الذي يواجه ضغطاً داخلياً هائلاً قبل الانتخابات الرئاسية بعد حوالى 11 شهراً، ورئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي يواجه انهياراً سياسياً داخلياً مع توجّه الى انتخابات اسرائيلية ثالثة في أقل من عام، والنظام الايراني الذي يعاني تحت وطأة الحصار الاقتصادي والخسارة الكبيرة التي اصابته في العراق بعد سقوط حكومة عبد الهادي واستمرار الاحتجاجات الشعبية.
هذا الواقع المأزوم ساعد في تدوير الزوايا وإبداء مرونة وفتح الأبواب المغلقة أمام إنجاز تسوية في اليمن، ستتطلب مصالحة ايرانية مع دول الخليج وجلوس طهران حول طاولة المفاوضات الى جانب واشنطن برعاية وترتيب من سلطنة عمان.
وزير الخارجية العماني يوسف علوي كان قد التقى نظيره الايراني هذا العام اربع مرات. فإضافة الى اللقاء الاخير منذ يومين في طهران، كان بن علوي زار طهران مرتين: الأولى في 10 ايار الماضي ثم في 27 تموز، قبل ان يلتقي الوزير ظريف في نيويورك في أيلول الماضي على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للامم المتحدة.
وخلافاً للقاءات الثلاثة، الاول حين كانت ايران تعتمد اسلوباً سياسياً هجومياً في مضيق هرمز وفي السعودية، رداً على العقوبات الاميركية، فإنّ اللقاء الاخير حصل تحت وطأة أحداث العراق ولبنان وأيضاً تظاهرات ايران.
القاسم المشترك لجميع هذه اللقاءات هو إعادة إحياء الوساطة العمانية من خلال جلوس ايران والولايات المتحدة حول طاولة المفاوضات، وخلافاً للمرات السابقة، وافقت ايران في المرة الرابعة على أن تنحصر المباحثات بالملف اليمني.
وقيل انّ بن علوي طرح خلال لقائه الاخير بظريف، عَقد مؤتمر يجمع دول الخليج وتشارك فيه ايران لحلّ الخلافات القائمة.
لكن نظرة سريعة الى المحور الاميركي ـ الاسرائيلي تُظهر جوانب يمكن ربطها بما يجري في ايران. ففي لندن، وفيما كانت قمة الدول المنضوية في ملف شمال الاطلسي منعقدة، وصل وفد اسرائيلي مهمته إجراء مفاوضات حول امكانية التوصل الى اتفاق «عدم قتال» بين اسرائيل ودول الخليج، إضافة الى المغرب.
وهذا الاتفاق هو بديل من اتفاقات السلام التي وُضعت جانباً في المرحلة الحالية بسبب الأزمة السياسية الحادة في اسرائيل وعدم امكانية السير بخطة «صفقة القرن».
لكن الأهم، انّ الفكرة الجاري طرحها في موازاة اتفاق «عدم القتال»، انشاء شبكة مواصلات للقطارات تربط دول الخليج بميناء حيفا الاسرائيلي عبر الاردن. كل ذلك لا يمكن وضعه جانباً عندما ستُطرح الحلول الانقاذية للسفينة اللبنانية التي يزداد غرقها في محيط الافلاس.
فالعواصم الغربية التي ما فتئت تنفي الاتهامات اليومية بأنّها وراء تحريك الشارع في لبنان، تكتفي مصادرها بالإجابة بابتسامة تهكّم، وهي تقول: وهل واقع الفساد المستشري معطوفاً على افلاس مالي في حاجة الى من يدفع في اتجاه تحريك الشارع؟ لكن هذه المصادر لا تنفي الشروط والطلبات التي حضّرتها لتشكّل برنامج عمل الحكومات المقبلة كشرط للإنقاذ المالي للبنان.
وخلال الاجتماع الثلاثي الأخير في لندن لمسؤولي الشرق الاوسط في الخارجية الفرنسية والبريطانية والاميركية، بدا الجو أقل تشنجاً مقارنة بالاجتماع الأول الذي كان عُقد في باريس الشهر الماضي. بدا الجانب الفرنسي الأكثر اندفاعاً بعدما رسم خطوات المرحلة المقبلة. وقيل إنّ الاجتماع الدولي، الذي كانت دعت اليه فرنسا والمتعلق بانقاذ لبنان لن يُعقد اذا لم تُكلّف شخصية لبنانية مهمة تشكيل الحكومة.
وروى المسؤول الفرنسي فارنو، أنّ هذا الموقف أبلغه السفير الفرنسي الى كبار المسؤولين اللبنانيين، فالمؤتمر يجب ان تسبقه خطوة جدّية حيال تشكيل الحكومة اللبنانية المقبلة.
في الاجندة الغربية بنود كثيرة ورؤية لحكومة مهمتها إحداث صدمة نفسية ايجابية، وأيضاً إبعاد الحقائب التي تشكّل مورداً مالياً مهمّاً للخزينة اللبنانية عن يد الاحزاب بسبب تجارب الفساد على مرّ الحكومات السابقة.
وتعطي امثلة على ذلك، حقائب الطاقة والاتصالات والمال والبيئة والعمل الخ… وكذلك هنالك ترسيم الحدود مع اسرائيل والبلوكات النفطية المُتنازع عليها.
وتدرك العواصم الغربية أيضاً أنّ «الوجع» المالي المؤلم في لبنان لم يطل فقط البيئة الحاضنة لـ«حزب الله»، بل أيضاً أصاب سوريا ومقوماتها المالية والاقتصادية، فلطالما شكّل لبنان الرئة الاقتصادية التي تنفّس من خلالها النظام السوري ولا يزال. وإنّ الدليل على ذلك هو الانهيار الذي أصاب العملة السورية مع اندلاع الاحتجاجات في لبنان، وازدياد حدّة الازمة الاقتصادية، وهو ما أدّى الى تصاعد التذمّر لدى المسؤولين السوريين من حلفائهم في لبنان بسبب التعنت السيئ حيال معالجة الأزمة الحاصلة في لبنان والتي تؤدي الى خنق الاقتصاد السوري اكثر فأكثر. وتجدر الاشارة في هذا السياق الى تصريح الرئيس السوري حيال الاحداث في لبنان، والتي وضعها في خانة الاحتجاجات الشعبية على مشاكل داخلية، وليس في إطار مؤامرات خارجية، كما يقول حلفاؤه.