كتب جواد بولس في “نداء الوطن”:
منذ الستينات من القرن المنصرم وربما قبل ذلك، أبرم الناخب والسياسي اللبنانيان اتفاقاً نفعياً بُني في جوهره على تفويض السياسي باستجلاب الموارد الوطنية من الفئات الأقل نفوذاً إلى دائرته وبقدرته على تنفيذ هذا التفويض بدقة وأمانة. وقد انسحب ذلك على الطوائف والطبقات الاجتماعية والمناطق. الا أن الحرب وقد ساوت بين الجميع، لم يعد السياسي بعدها قادراً على تسخير موارد دوائر أخرى لمصلحة جماعته أو بتسخيرها بالحد الكافي للمحافظة على موقع متقدم في بيئته.
لذا فإن إعادة انتخاب السياسيين بما عنت تجديداً ضمنياً لميثاق المنفعة بشكل عام، حدت بالسياسي إلى تسخير موارد الأجيال المستقبلية بهدف رفع المستوى المعيشي للجيل الحالي وسط اقتصاد متهالك بفعل الحروب والاحتلال.
اعتمد الناخب في لبنان إلزام ممثليه السياسيين – وكشرط من شروط انتخابهم – انتزاع حصّة من الثروة العامة لمصلحته الخاصة. حصة ترفعه إلى مستوى معيشة لا يتواءم وطاقاته، قدراته الذاتية، مساهمته الفعلية في الانتاج وحجم البيئة الاقتصادية المحلية التي يُنتج فيها. وقد تلقى السياسيون المنتخبون إشارة الناخب هذه بكل وضوح، خاصة وأنها اتسمت بالتكرار والالحاح، فبدأت عملية السطو السياسي على الثروة العامة بشكل منهجي.
وبما أن كل سياسي أو غالبيتهم كي لا نظلم اعتمدوا أسلوب “اللطش” من أمام ناخبي السياسي المنافس لتنفيع ناخبيهم وبالتالي تكبير الحصة المصادرة ليستفيد منها ناخبهم بحكم واقعه الخاص وانتاجيته المحدودة وذلك على حساب جمهور السياسي الآخر، وبما أن الثروة العامة القابلة للتوزيع في أي وقت هي محدودة بطبيعة الحال، لجأ السياسيون إلى وضع اليد على حصة الاجيال القادمة من الخير العام بغية توزيع هذا الخير على ناخبي الحاضر وذلك كبديل سهل عن الاستثمار في الاقتصاد الوطني وزيادة قدرته على الإنتاج. وقد تم ذلك عبر الاستدانة. والاستدانة هي واقعاً إلزام الأجيال القادمة بتسديد فاتورة الانفاق الحالي من غلة انتاجها المستقبلي.
استمرت الحالة على هذا المنوال حتى وصلت بنا الأمور إلى استنفاد حصة الأولاد والاحفاد وما يليهم من الأسباط من الثروة العامة جراء توزيعها على الناخبين الحاليين لاسترضائهم. حتى بات كل مولود جديد في لبنان لا يرى النور إلا وأكتافه الطرية مثقلةٌ بعشرات الآلاف من الدولارات كدينٍ هو برّاء منه.
انتفاضة بجذور شبابية
تبدو الانتفاضة الحالية متجذرة في الجيل الشاب لقناعتهم بأن خيار أهلهم ذاك مثّل خيانة لهم وهدراً لحقوقهم وأن أهلهم قد قبضوا وصرفوا غلّة انتاجهم الخاص بالاضافة إلى أقساط مكلفة ستقضم غلّة انتاج الأولاد والأحفاد. وهو أحد الاسباب الذي نرى فيه هذا الطلاق المرعب بين الأجيال: جيل مثّلته أو ما زالت تمثّل فئة منه الطبقة السياسية الحالية وجيل ينبذ هذه الطبقة نبذاً تاماً ومعها خيارات أسلافه…
تساءلت كثيرا عن مصدر هذا التعلّق بمفهوم “القوة” عند المسؤول السياسي وعند الناخب على السواء وعن معانيه (وهو المفهوم الذي دفعت ثمن نبذي منطقه مرارا في دائرة زغرتا التي مثّلتها نائباً) وتبين لي أن الناخب أراد هذا تماماً ممن يمنحه صوته؛ وهو أن يسخّر له القدرة على تأمين مستوى معيشة أعلى من ذاك الذي قد يكون متاحاً له بالاستناد إلى قدرته على الانتاج ومواظبته الفعلية عليه دون أن يحتاج، بشكل عام، إلى زيادة انتاجيته ومعها إنتاجية بيئته الاقتصادية. فإنشاء البيئة الاقتصادية والاجتماعية والاستثمارية التي يتطلبها نمو الانتاج يحتاج إلى وقت وتضحيات مهمة لا تأتي بنتائج سريعة على الأفراد. لذلك لم يمانع الناخب أن يتم ذلك عن طريق استغلال انتاج الآخر ولو كان هذا الآخر ينتمي إلى سلالته.
أما السياسيون فرأوا أن مد اليد على خيرات سائبة أمرٌ لا ضير منه طالما أن الأجيال القادمة غير قادرة على المساءلة وأن الجيل المستفيد لا مانع عنده من “لطش” حصة الأجيال القادمة ويستمر مصراً على ان يعيش حياة بمستوى يفوق طاقته على الإنتاج ونسبة حصته منه على نحو ما يقتضيه واقعه. وطالما أن السياسي مفوّض من الناخب بنهب حصة الأجيال القادمة، فلماذا لا يستفيد هو أيضاً؟ ولماذا لا يفيد حلقته الضيقة بتمييزها عن الحلقة الأوسع خصوصاً أن موقعه على مقياس “القوة” مرتبط بحجم القدرة على “الأخذ” من أمام الأجيال القادمة والصرف على الجيل الحاضر. فكلما زاد أخذاً ازداد قوةً بحجم الحصة المقتطعة من الخير العام الذي يوزعه على ناسه والذي من دونه، لن يتسنى لهؤلاء أن ينالوا درجة من الرفاهية توازي ما يصبون إليه في حياتهم.
حول هذا الميثاق الشيطاني بين الناخب والسياسي نما واقع اقتصادي لم يكن النظام المالي ولا النخب الاقتصادية بعيدين عنه. فعوضاً عن مساهمات البنوك والمصرف المركزي بالإنماء وتحفيز الإنتاج ركز النظام المالي حصرياً على إدارة انتقال الثروة من الأجيال المستقبلية الى الحالية وذلك عبر إقراض حكومات امتهنت سياسة الانفاق العجزي ولم تضع حداً للفساد والنهب والسرقة. وكالفطر نبتت الثروات على طريق هذه العملية المتبعة.
لقد ألصق جيلنا نفسه بزعماء التزموا ببسمةٍ وعجرفة مهامَ ربط الحبل حول أعناق الاجيال القادمة من أجل ما اعتقده هذا الجيل تحسيناً “غير مكلف” وقصير الأمد لمستوى معيشتنا، نحصل عليه هيّناً بما لا يناسب طاقاتنا الإنتاجية الفعلية، الامر الذي استوى على انتفاضة جيل جديد رأى الصورة بوضوح وأدرك أنه وُضع امام خيارات مستحيلة. الناخب والنخب والسياسي كانوا متفاهمين تماما بعضهم مع بعض ومن يدعي عكس ذلك، فهو يكذب على نفسه.
هذه الثورة هي ملك الجيل الذي لم يدخل في أي اتفاق شيطاني مع السياسي، فيما على الجيل الذي سبق ونخبه وسياسييه ان يتنحوا جانباً ويستمعوا إلى ما لدى هذا الشباب من قول، ككفارةٍ على ما اقترفوه. ولكن.. علينا جميعاً ان نعي أنه وكنتيجة حتمية لأفعالنا، فإن على اللبنانيين القبول بأن مستوى معيشتهم سيتدنى بشكل ملحوظ، وأن كثيراً من الأشياء والخدمات التي اعتبروها أمراً مفروغاً منه، لن تكون بالمتناول بعد اليوم، وان عليهم ان يتكيفوا مع العيش وفق مواردهم، التي يحددها حصراً إنتاجهم في بيئة اقتصادية صعبة ستكون، وأنهم لن يكونوا قادرين بعد اليوم على أن يرفعوا مستواهم المعيشي على حساب العامة، واخيراً وربما أولاً أن يدركوا أن أوان تمزيق ذاك الميثاق الذي أبرموه تقليدياً مع ممثليهم السياسيين قد أزف موعده!
ويبقى الأمل حياً في قلب كل لبناني صادق.