يرى جواد بولس، المنتمي إلى عائلة سياسية لها دورها في تاريخ لبنان، أن شيئاً تغيَّر بعد 17 تشرين الأول الماضي بين الطاقم الحاكم والشعب، وأنه لا بد من حوار متعدد الاتجاهات لوضع الحلول على السكة، متوقعاً أن ينتج عن الانكماش الاقتصادي إفقار متمادٍ للبنانيين، وأن تستمر محاولة الخروج منه لسنوات عديدة.
بولس النائب السابق، الذي دخل البرلمان عام 2005 لدورة واحدة على اللائحة التي مثلث قوى “الرابع عشر من آذار” في دائرة زغرتا في الشمال، يُعرب عن اعتقاده بأن “نظرة حزب الله لم تتغيَّر، وأنه مستعد لجرّ لبنان والشعب اللبناني إلى القعر طالما هو مقتنع بأن في ذلك مصلحة للثورة الإيرانية”. وبالتالي، إذا كان “هناك من أمل بالضغط على الطبقة السياسية وعلى “حزب الله” للإسراع بوضع أسس تسمح بالخروج من الأزمة، فهو معقود على الشباب الثائرين اليوم، والذين لن تتوقف ثورتهم بعدما وصلوا إلى مكان ليس عندهم شيء يخسرونه”.
ويؤكد المحامي جواد بولس، المتحالف مع النائب ميشال معوَّض ويعملان ضمن “حركة الاستقلال” كإطار سياسي خارج منظومة العائلات، أن “أول الغيث في استراتيجية المعالجة يكون بتأليف حكومة قادرة على مواجهة اللحظة، وبعث الثقة بالبلد على الصعيدين الداخلي والخارجي، وترميم علاقات لبنان مع محيطه العربي، وضبط الحوار مع مؤسسات التمويل الدولية. والأهم أن تكون الحكومة قادرة على محاورة المجتمع اللبناني الثائر والشباب في الساحات الذين يرفعون شعارات مهمة في إصلاح النظام ونبذ الطائفية وفي محاربة الفساد والهدر والسرقة واستعادة الأموال المنهوبة، ويطالبون بوضع أسس للبنان وللمنظومة الدستورية اللبنانية تختلف جذرياً عما كان موجوداً في الماضي، ولا يريدون أن يكونوا أسرى المحاور وصراعاتها”.
وهنا نص الحوار:
* وصّف رئيس “حركة الاستقلال” النائب ميشال معوَّض الوضع بأنه يشبه ما بعد الحرب العالمية الأولى، كعضو في الحركة، هل يمكن أن تشرح ما الذي قصده تحديداً؟
** الصورة التي حاول النائب ميشال معوض إيصالها أن الأزمة الاقتصادية التي نعاني منها هي بحجم تاريخي، وليست انكماشاً اقتصادياً مرحلياً، أو وضعاً صعباً يمكن معالجته بالأساليب التقليدية. إنها انهيار اقتصادي بحجم الانهيار الاقتصادي الذي شهده العالم في العام 1929 إنما على قياس لبنان. هذه الصورة تُظهر أن الانهيار سوف يطال كل قطاعات الاقتصاد بما فيه القطاع الأكثر صلابة في لبنان، أي القطاع المالي والمصرفي، وأن نتائجه ستكون على صعيد الإنتاج والانكماش، وعلى صعيد هبوط مستوى معيشة اللبنانيين. وسوف تكون نتيجته صعبة جداً ومؤثرة على اللبنانيين وعلى الاقتصاد والبلد. تشبيه الحرب العالمية الأولى يستدرج فكرة المجاعة في مخيلة الناس ووجدانها. لا أعتقد أننا نتكلم عن مجاعة، بل عن وضع اقتصادي على صعيد الأفراد والعائلات والمؤسسات سيكون صعباً جداً وغير مرحلي، وسيدوم لفترة طويلة، وينتج عنه إفقار متمادٍ للبنانيين، وانكماش اقتصادي كبير سوف تستمر محاولة الخروج منه لسنوات عديدة.
*هل يمكن أن نحدد تاريخ بدء الأزمة؟
** أعتقد أن السياسات الاقتصادية التي اعتمدتها الحكومات السابقة، خلال السنوات العشر الماضية على الأقل، والتي اتّسمت بالهروب إلى الأمام، هيّأت لحتمية الأزمة اليوم، ناهيك عن العناصر الخارجية المتمثلة بالحصار القائم على الاقتصاد اللبناني بسبب الصراع بين الولايات المتحدة وإيران على النفوذ في المنطقة، والحرب السورية التي كانت لها تأثيرات على وضعنا الاقتصادي، وبالأخص متطلبات تمويل الاقتصاد السوري، وهناك أيضاً الوضع الشاذ القائم في لبنان بسبب وجود دويلة داخل الدولة، والسلاح إلى جانب السلاح الشرعي، وبالتالي قدرة الفريق المسلح على تحوير المصلحة اللبنانية الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية باتجاه خدمة مصالح لا تصب في مصلحة الاقتصاد اللبناني، وأحياناً لا تصبّ في مصلحة الدولة اللبنانية.
* لماذا اتبعت السلطة، في رأيك، سياسة الهروب إلى الأمام؟
** هناك سببان، أحدهما عميق والآخر سطحي. الأول هو أن الجميع بمن فيهم المسؤولون وأصحاب الاختصاص والاقتصاديون وأصحاب الرساميل كانوا يعرفون أن الدولة والاقتصاد لا يمكن لهما أن يستمرا في غياب إصلاحات جوهرية، وكانوا يعرفون أننا سنصل إلى أزمة اقتصادية ومالية. هذه الإصلاحات مفهومها في الأساس إصلاحات تؤدي إلى وقف الهدر و”ضبضبة” الفساد ومنع السرقات، ونحن لا نُميِّز أحياناً عندما نستعمل واحدة من هذه الكلمات كمرادف عن الكلمة الأخرى، ولكن هناك فرقاً بينها، لأن السرقة تتطلب الكثير من الهدر، ولكن السرقة ليست هدراً، والفساد نميّزه عن السرقة لأن ليس كل أنواع الفساد سرقة، فالإصلاحات التي كانت مطلوبة تحد من الفساد والسرقة والهدر، ولم يتمكن الطاقم السياسي الحاكم من إجرائها بسبب وجود السلاح، لأن السلاح بطبيعته يسمو على القانون، وبالتالي فإن أي إصلاح يعني تطبيق القانون وتطوير تشريعات أشد لمنع حالات شاذة تسمح بالتعدي على المال العام، ولكن طالما أن السلاح موجود، فأي محاولة لإجراء إصلاحات ستفشل بسببه.
السلاح له مصالح تختلف عن مصالح الاقتصاد وعن مصالح الدولة، وبالتالي أعتقد أن هناك نوعاً من القناعة أنه في غياب أي إمكانية للإصلاح بسبب وجود السلاح وبسبب عدم مباشرة أو مبادرة أصحاب السلاح إلى الإصلاح، بمعنى أنهم هم الذين تغلبوا على القانون لأن سلاحهم أسمى وأقوى من القانون، هم كان من المفروض أن يبادروا باتجاه الإصلاح ولم يبادروا.
* كيف تتوقع منهم أن يبادروا؟
** مكامن الهدر والفساد معروفة، وفي طليعتها موضوع المداخيل الجمركية مثلاً التي تقتضي ضبط الحدود، ولكن مصلحة أصحاب السلاح تقتضي عدم ضبط الحدود، لا يمكن أن يُبادر صاحب السلاح إلى ضبط الحدود، فهذا يتناقض مع مصالحه ولو كان ذلك في مصلحة الدولة والاقتصاد. عندما اقتنع الطاقم السياسي باستحالة تمرير إصلاحات جوهرية تمنع الانحدار حاول إدارة دفة الحكم بـ”التي هي أحسن” ولكن من دون معالجة المسائل التي كان من الممكن أن تحل المشاكل على المدى الطويل، وصار هناك نوع من الاتكالية، فكل فريق سياسي “يرمي الطابة” في ملعب الفريق السياسي الآخر، ويتكل عليه من أجل المبادرة، والرؤساء الثلاثة يراهنون على أن أحداً منهم سيُخرج “الأرنب من قبعته” لإيجاد الحل السحري لتحقيق الإصلاح في وجه السلاح، ومن أجل ذلك أقول أن هناك سبباً عميقاً يتمثل بالسلاح الذي يستحيل الإصلاح في ظله.
* وصلنا إلى الهاوية، ولم يعد الأمر يقتصر على تحذيرات. هناك من يحدد أن الانهيار الكليّ قد يكون خلال شهرين أو 3 من اليوم، يُضرب موعد شباط إذا لم تكن هناك خطوات حقيقية تضع حداً للانهيار وتبدأ بإعادة تصويب البوصلة؟
**نعم، الانهيار حصل. والمطلوب الآن معالجة الوضع القائم في البلد، وإيجاد الاستراتيجيات التي من شأنها أولاً تخفيف نتائج هذا الانهيار على الاقتصاد، وضبط الترددات السلبية قدر المستطاع على الطبقات المجتمعية التي هي أكثر حاجة، ووضع خطة للخروج من الأزمة، ولو أن هذا الخروج، برأي الاقتصاديين والخبراء، سيستغرق وقتاً طويلاً. أول الغيث يكون بتأليف حكومة لديها طاقات تجعلها قادرة على مواجهة اللحظة، وبعث الثقة بالبلد على الصعيدين الداخلي والخارجي، وترميم علاقات لبنان مع محيطه العربي الذي يستثمر في لبنان. حكومة قادرة على أن تقوم بالتحاور مع المجتمع اللبناني الثائر الذي عنده متطلبات، ويريد تغييرات في مقاربة الطبقة السياسية للسياسات الاقتصادية والنقدية والمالية والأمنية والاجتماعية وابتعادها عن اعتماد الأساليب السابقة في إدارة الدولة، وأن تعمل على ضبط الحوار مع مؤسسات التمويل الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لأن أي محاولة لترميم الوضع الاقتصادي تتطلب شيئين: الأول، هو “الانضباط” الذي سيُفرض على اللبناني، سواء أكان مواطناً أم مسؤولاً، وسيكون مؤلماً. وثانياً، الطلب من المجتمع الدولي الذي سيقوم بعملية “الانضباط” أن يؤمِّن التمويل المرحلي الذي لا بدّ منه من أجل إعادة الدورة الاقتصادية إلى شيء من حالاتها الطبيعية في المرحلة التي سيقتضيها وضع السياسات الاقتصادية والنقدية والمالية الضرورية لحين إعطاء النتائج المرجوة.
* ما شهدناه خلال الأيام الماضية يدل على أن الطاقم الحاكم لم يتعلم شيئاً، وبالتالي نحن ما زلنا ذاهبين باتجاه حكومة محاصصة مُجمّلة، أي أننا ذاهبون إلى مزيد من الانهيار، وسيقع الهيكل على رؤوس الجميع، ألا يدركون ذلك؟
** أظن أن الطبقة السياسية واعية لمخاطر المرحلة، ولكن المشكلة أنه لغاية الآن لا يوجد عندها تصوُّر حول ماهية الحل، بمعنى أنهم لا يعرفون كيفية وضع الحلول للمشكلة!
* في رأيك، لا يعرفون، أم لا يريدون، أم هم غير قادرين؟
** سأعطيك مثالاً، أطل أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصر الله، منذ أسبوعين تقريباً، وتكلم لأول مرّة بالشق الاقتصادي، وأعطى تشخيصاً للأزمة وتصوراً لكيفية الحل يتضمن سلسلة اقتراحات، منها التصدير إلى العراق عبر معبر البوكمال وتخفيض الفوائد. لكن غالبية الاقتصاديين، ورأيي الخاص، أن هذا التشخيص لم يكن على مستوى التحديات القائمة، ويدل على قلة معرفة بطبيعة الاقتصاد الحديث وطبيعة الاقتصاد اللبناني وآلياته، وقد استنتجت من حديثه أنه لا يفهم عمق المشكلة ولا حجمها وطبيعتها. هناك أطراف في الطبقة السياسية أو في الطبقة المطلوب منها أن تضع الحلول لا تفهم حجم المشكلة الاقتصادية، وهناك أطراف تفهم المشكلة ولكن لا تعرف من أين تبدأ بالحل، لأن المطلوب في المرحلة المقبلة يختلف تماماً عمّا تعوَّدوا عليه خلال فترة حكمهم السابقة. يقول أينْشتاين: “لا يمكنك أن تتوقع من الذين خلقوا المشكلة أن يجدوا حلاً لها”. لو كانوا مدركين للمسار الخاطئ الذي يسيرون به لما وقعت المشكلة في الأصل.
* البعض يرى أن نصر الله طرح ما يتلاءم مع مشروعه الاستراتيجي وضرورة بقاء لبنان ورقة بيد إيران، حتى لو جاء الثمن على حساب تغيير طبيعة الاقتصاد وتحويله إلى “اقتصاد مقاوم”؟
** دعيني أعود إلى خطاب السيد نصر الله، فقد تناول في بدايته الشأن اليمني. وقال إن الشعب اليمني عانى صعوبات كثيرة جداً، من الطاعون إلى الكوليرا والفقر والحرب والقهر لفترة طويلة، قبل أن يصل إلى نتيجة أن الشعب اليمني “انتصر”. وقال أيضاً إن إيران اكتشفت بئراً نفطية جديدة بطاقة 53 مليار برميل ستزيد من ثروتها، وكأنه يقول للبنانيين أن عليهم أن يتمثلوا بما حصل مع اليمنيين وأن يعانوا مثلهم، والنتيجة ستكون انتصاراً للخط الذي يسميه “الممانعة” وستكون إيران موجودة في النهاية، وأن الـ53 مليار برميل من البترول ستكون كالبلسم الذي سيُسكب عليهم. إذن توجُّه “حزب الله” لم يتغيَّر، وكل التضحيات التي اختارها أو لم يخترها الشعب اللبناني وليس له رأي فيها، تلزم خيار الممانعة والالتصاق بإيران وبثورتها الإسلامية، وأن “الحزب” بما يمثله من امتداد لهذه الثورة ملتزم بها شخصياً وملتزم بفرضها على من لم يختر هذا الخيار، سواء أأعجبهم الأمر أم لم يعجبهم.
طبعاً السيد نصر الله لا يُمثل اللبنانيين كلهم، ولكن ليس باستطاعتنا أن ننكر أنه نافذ وقوي ومسلح وله دور كبير في البلد. وبالتالي، يجب عند أي مقاربة لما يمكن أن يحصل مستقبلاً أن نقتنع بأن نظرة “الحزب” لم تتغيّر، وأنه مستعد لجرّ لبنان والشعب اللبناني إلى القعر طالما هو مقتنع بأن في ذلك مصلحة للثورة الإيرانية. هذا الشيء واضح. أما باقي اللبنانيين الذين ليس لهم مصلحة ومنهم من هو أسير هذه المنظومة-وأقصد هنا الطبقة السياسية، فهو مُلزم بأن يسير في هذا المسار، رغم أنه ليس مرتبطاً عضوياً بالسلطة وسيحاول وضع الحلول البراغماتية الموضوعية الممكنة للخروج من الأزمة التي نعاني منها… فهل سينجح بذلك؟ لا أدري. لكن الأكيد أن هناك فئة من الشعب اللبناني، وبالأخص فئة الشباب، أصبحت بعيدة كل البعد عن أي اعتبار أيديولوجي أو حزبي. هؤلاء يريدون تغييراً شاملاً وهم اليوم في الساحات، وينتمون إلى الفئات والطوائف كافة، ويرفعون شعارات مهمة في إصلاح النظام ونبذ الطائفية وفي محاربة الفساد والهدر والسرقة واستعادة الأموال المنهوبة، ويطالبون بوضع أسس للبنان وللمنظومة الدستورية تختلف جذرياً عما كان موجوداً في الماضي، ولا يريدون أن يكونوا أسرى محاور. إنْ كان هناك أمل بالضغط على الطبقة السياسية وعلى “حزب الله” من أجل الإسراع بوضع الأسس التي ستسمح بالخروج من هذه الأزمة، فهو من خلال هؤلاء الشباب الذين يثورون اليوم والذين لن تتوقف ثورتهم لأنهم وصلوا إلى مكان ليس عندهم شيء يخسرونه.
* الرهان على الشباب الثائر اليوم، لكن أليس لافتاً أن الطبقة الحاكمة في العمق لا تخشاهم وتعتبر أنها قادرة على تشتيتهم وتفرقتهم، لا سيما وأن عبورهم للطوائف ما زال هشاً وقابلاً للانكسار في أي لحظة؟
** في رأيي، يجب أن يكون هناك حوار. لا شك أن لبنان بعد 17 تشرين الأول الماضي لن يكون كما قبله، هناك شيء تغيّر، ليس فقط في الوضع الاقتصادي ولكن أيضاً في العلاقة بين المسؤولين والشعب. أعتقد أن الثورة اندلعت لسببين، بعيداً عن منطق المؤامرة الذي لا أؤمن به، السبب الأول، أن الشعب اللبناني خاف على مستقبله وعلى وضعه الاجتماعي وعلى حياته وعلى قدرته في الارتزاق، والثاني لأنه شعر بالقهر، وبنوع من احتقار الطبقة الحاكمة له ولمصالحه. الانتفاضة خلقت واقعاً جديداً، وهو أن هناك شعباً لم يعد يعتبر نفسه مُمثَلاً بالطبقة السياسية، وأن المؤسسات الدستورية لم تعد تخاطبه وتمثله ولا تمثل الدولة التي يريدها. اليوم هناك أناس عندهم مطالب جذرية، ولكن في المقابل هناك سلطة موجودة وتمثل فئة من الشعب، هل بإمكاننا اليوم القول إن “حزب الله” ونبيه بري وسعد الحريري والرئيس ميشال عون والأحزاب القائمة لا يمثلون؟ لا ليس بالإمكان. هذه الثورة ضد الأحزاب كافة وليس فقط ضد الرئيس عون وجبران باسيل، وبالتالي الحوار بين هذين الفريقين أصبح ضرورة مهمة، وأعتقد أن رئيس الجمهورية طرح هذه الفكرة، بغض النظر عن قدرة الشارع على فرز ممثلين عنه، أو رغبته بالحوار مع رئيس الجمهورية الذي دعا إلى هذا الحوار، باسم مؤسسات السلطة، وليس باسمه الشخصي طبعاً. الحوار داخل الحكومة مطلوب في ظل عدم إجراء انتخابات نيابية قريبة، ولأن فئة كبيرة من الشعب اللبناني لا تعتبر نفسها ممثلة من قبل مجلس النواب المكوَّن من كتل حزبية.
تأخير الحوار سوف يُطيل الأزمة، ويُعيق وضع الحلول على السكة، أو يؤخرها. هناك حاجة للحوار بين السلطة والشارع، وداخل السلطة نفسها، وحاجة للحوار بين “حزب الله” وسائر مكونات السلطة لأن نظرة “الحزب” إلى البلد تمنع أو تضع حاجزاً منيعاً أمام أي إمكانية للخروج من الأزمة، وحتى هناك حاجة للحوار بين “حزب الله” وبيئته، لأنه تبين أن هناك فئة كبيرة جداً ضمن ما يسمى بـ”البيئة الحاضنة” لـ”الحزب” تعترض على أدائه، وعلى السياسات التي يُشارك فيها والتي أوصلت البلد إلى ما وصل إليه.
رؤيتي أن الحكومة يجب أن تكون بالكامل من التكنوقراط وخالية من الوجوه السياسية، بشكل مباشر أو غير مباشر، ربما باستثناء رئيسها الذي يتحتم أن يكون-بحكم طبيعة التركيبة اللبنانية-شخصية سنية لها صفة تمثيلية واقعية وملموسة، مع ضرورة أن يترأسها الرئيس الحريري، لتكون قادرة على إدارة هذا الحوار إلى جانب باقي المهام الإنقاذية التي هي في صلب مهامها. ستكون قادرة على الحوار مع الشعب لأنها مكوَّنة منه، وعلى محاورة “حزب الله” وعلى إدارة الحوار داخل المؤسسات بين المكونات الحزبية والسياسية. ولكن لغاية هذه اللحظة الثورة لا تتحاور مع السلطة لأنها ترى في ذلك محاولة لضربها، والسلطة تدَّعي رغبتها بالحوار، ولكنها لا تقوم بفتح القنوات اللازمة.
* البعض يعتبر أن ثمة مطالب للشارع المنتفض واضحة، ولا حاجة للحوار، وتعرف السلطة تماماً ماذا عليها أن تفعل حتى تكتسب الثقة الداخلية والخارجية، فلماذا الحوار الآن؟
** لأنه عليكِ ليس فقط أن توصلي أفكاراً إلى السلطة بل يجب تطبيقها، يجب أن تصلي إلى مكان يسمح بتطبيق المطلوب، مثلاً إذا قلنا إن الحراك يريد التخلص من الطائفية، وهذا شيء مطلوب والشباب يقولون بأنهم ينبذون الطائفية ويريدون الانتهاء منها. هذا شعار ولكن تطبيقه يحتاج حواراً، وليس باستطاعتنا الاكتفاء بالقول إن مطالبنا معروفة.
*هل يمكن أن يشكل هذا الحوار محطة جديدة تشبه “اتفاق الطائف” أو “اتفاق الدوحة” بشكل تعديل ما للدستور ولوثيقة الوفاق الوطني؟
**الأولوية المطلقة أو المرحلة الأكثر إلحاحاً هي للحوار حول المواضيع الاقتصادية، المالية، النقدية والاجتماعية. بعدها يأتي أداء المؤسسات الدستورية والمؤتمنين عليها، وهذا حوار سياسي ودستوري. وفي رأيي لن يُحل إلا بعد انتخابات نيابية، ولكن يجب أن تُطرح هذه الأفكار قبل ذلك حتى إذا ما وصلنا إلى انتخابات نيابية سواء أكانت مبكرة أو في الـ2022 ينتخب الشعب على خلفية تأييده أو رفضه لهذه الأفكار.
* ما النموذج الذي ينتظر اللبنانيين إذا أخفقوا؟
** لا أريد التكهن بالشيء الذي يمكن أن يصير، ولكن فنزويلا وإيران والكونغو خير مثال على ذلك، بإمكاننا رؤية ماذا يمكن أن يحدث عندما ينهار الاقتصاد وتنهار الدولة والمالية العامة، وعندما ينقطع الحوار، وعندما ترفض الدولة أن تعالج مشاكلها الاقتصادية بطريقة براغماتية وواقعية، وضمن إطار الحوار بين الشعب والطبقة الحاكمة. في كل هذه الأمثلة هناك طبقة حاكمة منفصلة تماماً عن شعبها، ولا يتحاورون مع بعضهم البعض، بشكل مشابه لما يحدث عندنا. العالم كله يقول إذا لم يُساعد اللبنانيون أنفسهم فلا أحد سوف يساعدهم، وبالتالي على اللبنانيين أن يضعوا الحلول وأن يطلبوا من بعدها مساعدة من هو مستعد لدعمهم من أصدقاء لبنان ومن اللبنانيين المنتشرين لانبعاث جديد لبلدهم، وحتى صندوق النقد الدولي لن يأتي إذا لم نطلب منه ذلك. لذا المطلوب أن نضع أسساً لهذا الحل، والكل مسؤول ولكن السلطة مسؤولة أكثر من الشعب، و”حزب الله” أيضاً مسؤول لأنه جزء من السلطة ولكن من خارج المؤسسات. لا أحد سيأتي رغماً عنّا ويفرض علينا حلولاً، وسنذهب باتجاهات سيئة جداً، ولكن يجب أن نتكلم مع بعضنا حتى نصل إلى الحلول.
* المطلوب أيضاً تغيير في السياسة الخارجية المعتمدة راهناً…
** المطلوب في الواقع أن يلتزم لبنان السياسات التي ادعى أنه ملتزم بها، وأن يكون الالتزام فعلياً وليس لفظياً، بمعنى أن يكون موضوع النأي بالنفس جدياً، وكذلك ضبط الحدود والإصلاح، وعدم التعدي اللفظي والواقعي على عمقنا العربي. نحن لا نطلب المستحيل، ما نطلبه هو أن تُطبَّق المواقف التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة. المسألة تتعلق بالثقة، ولن نكسب ثقة المجتمع الدولي إذا كنا نتكلم شيئاً ونفعل شيئاً آخر.
إذا عدنا إلى الحراك فهو يطلب أكثر من ذلك، الحراك والناس يقولون بأنهم يريدون حياد لبنان، واقعياً يمكن لم يستعملوا هذه العبارة، لكن يقولون إننا نريد أن يكون لبنان مُحيّداً تماماً عن صراعات المحاور وعن صراعات الدول وعن صراعات ثورية ليس لنا علاقة بها، ونحن من ضمن المنظومة الدولية، سواء أكانت عربية أم الأمم المتحدة، أم أي منظومة ينتمي إليها لبنان طوعاً، أي أن نمارس دورنا المؤيد لقضايا نؤمن بها، ولكن يجب أن يكون ذلك انطلاقاً من أن لبنان دولة محايدة ومُعلن حيادها.
* قلت في البداية أننا نعاني انكماشاً اقتصادياً كبيراً سوف تستمر محاولة الخروج منه لسنوات عديدة، هل يمكن أن نتوقع كم ستكون؟
** أي أزمة اقتصادية بحجم الأزمة التي تُصيب لبنان، وقياساً إلى ما حصل في دول أخرى، نرى أنها استمرت لسنوات للخروج منها، واليونان مثال على ذلك، بالرغم من وجود أوروبا إلى جانبهم، ولا يعيشون في منطقة حروب كما نحن نعيش، وليس عندهم هذه النزعات الأيديولوجية ولا عندهم دويلة داخل الدولة، رغم كل ذلك، احتاجت اليونان إلى أكثر من 5 أو 6 سنوات للبدء بالخروج من أزمتها والعودة إلى النمو، وكون لبنان لا يتميز بكل هذه الإيجابيات، بل عنده سلبيات أكثر، فربما يحتاج إلى وقت أطول، لكن المهم أن نبدأ، وأن يقتنع الناس أنه في مقابل الألم الذي سيخضعون له مرغمين، والتضحيات التي سيبذلونها، هناك مستقبل مشرق، وإقناعهم بهذا يحل نصف المشكلة.
حاورته: رلى موفّق