لم يعد في الميدان سوى سعد الحريري. في الجولة الأخيرة أنهى مرحلة البدائل. من يُرد أن يشكّل الحكومة عليه أن يرضخ لشروطه. لكن ذلك ليس موقف رئاسة الجمهورية. في بعبدا إصرار على تحمّل الحريري مسؤولية أفعاله. من استقال عليه أن يتفاوض مع الكتل النيابية للوصول إلى تشكيل الحكومة. وفي حال أراد استبعاد جبران باسيل، فإن لذلك كلفة سياسية عليه أن يتحمّلها.
يوم استيعاب الصدمة كان أمس. لا تواصل جدياً بين أي من الأطراف. لكن مع ذلك، فإن الجميع تصرّف على قاعدة أن التكليف أنجز، ويبقى التأليف، الذي يفترض أن يبتّ قبل الإثنين المقبل. سعد الحريري صار رئيساً مكلفاً، قبل الاستشارات النيابية. سبق للرئيس نبيه بري أن أعلن أن الحريري هو مرشّحه الوحيد لرئاسة الحكومة، أما حزب الله فلطالما نُقل عنه أنه يفضّل الأصيل على الوكيل. لكن الأصيل كانت حساباته مختلفة. تلاعب بالجميع على قاعدة «ليس أنا بل أحد غيري»، ثم وضع الألغام في طريق كل من رُشّح ليكون «غيري». المرشح الأخير، أي سمير الخطيب، خرج من دار الفتوى مبشّراً بأن قيادات وفعاليات الطائفة السنية سمّت الحريري لرئاسة الحكومة.
ببساطة، ولىّ زمن اقتراح أسماء بديلة. وهذا يعني أن الخيارات ضاقت كثيراً أمام رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر. لا بد من الحريري ولو طال الزمن، لكن ذلك لن يكون سهلاً. عودته إلى السراي الحكومي، مرهونة بإيجاد مخرج لمسألة مشاركة الوزير جبران باسيل في الحكومة، في ظل إصرار الحريري على استبعاده. باسيل من جهته كان وافق على الخروج شرط خروج الحريري معه. أي أمر آخر ما زال مرفوضاً حتى اليوم. في الأساس، سبق أن طرح الوزير غطاس خوري على رئيس الجمهورية تشكيلة حكومية يترأسها الحريري ولا تضم باسيل. لكن لم يتأخر عون في رفضها، وإعادة فرض قاعدة إما الحريري وباسيل خارج الحكومة معاً وإما داخلها معاً.
يُنقل عن عون أنه هدّد بعدم ترؤس اجتماعات مجلس الوزراء إذا وصل الحريري إلى رئاسة الحكومة. وهذا يعني أن المشكلة بين الطرفين طويلة الأمد. لكن في المقابل، يتردد أن عون حاسم في رفضه التام لتأجيل الاستشارات مرة جديدة. في الأساس، هو كان يريد تأجيلها حتى الخميس فقط وليس الإثنين. يعتقد أن الحريري الذي أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه باستقالته، عليه أن يتحمّل مسؤولية الحل. وهذا يعني أن لا خيار أمام الأخير سوى السعي إلى الوصول لتفاهمات قبل الإثنين المقبل. أي أمر آخر، سيعني وصوله إلى رئاسة الحكومة، مجرداً من دعم الأكثرية. العونيون، على الأرجح سينتقلون إلى المعارضة، ورئيس الجمهورية لن يسهّل له عمله. صحيح أنه يصعب الحصول على إجابة بشأن موقف ثنائي حركة أمل وحزب الله من الحكومة في حال خروج العونيين منها، لكن حتى مع افتراض مشاركتهم في الحكومة، فإنهما لن يكونا إلى جانب الحريري.
كل ذلك يشير إلى أن تسمية الخطيب كانت فرصة جدية للخروج من النفق الحالي. وهذا يقود إلى السؤال التالي: هل الحريري حصراً هو من أطاح الخطيب؟ ماذا عن دور باسيل؟ هل صحيح أنه أبلغ حلفاءه يوم الجمعة أنه لن يسير بالخطيب رئيساً للحكومة؟ مصادر متابعة تؤكد ذلك، وتشير إلى أنه قرن موقفه هذا بالتهديد بعدم المشاركة في المشاورات. ولأن ذلك يعني تلقائياً أنه لن يُشارك أكثر من 40 نائباً في الاستشارات، لم يجد الخطيب أفضل من دار الفتوى ليلجأ إليها معلناً انسحابه.
لكن لماذا تراجع باسيل؟ ثمة من يعتبر أن الأخير حسبها جيداً ووجد أن خروجه من الحكومة لن تكون له سوى انعكاسات سلبية على مستقبله السياسي. وبالرغم من أن الاتفاق يقضي بأن لا تستمر الحكومة لأكثر من تسعة أشهر، إلا أنه في المقابل لا أحد يضمن ألا تبقى حتى نهاية العهد، بما يعنيه ذلك من قضاء على حظوظ باسيل الرئاسية، وربما مستقبله السياسي، فكان أن أعاد الأمور إلى النقطة الصفر. وقد تلقّف الحريري ذلك، خاصة أنه وافق على الخطيب على مضض. ثمة من يشير إلى أن زيارة الخطيب إلى دار الفتوى بعد ظهر الأحد، بالرغم من أن أمر انسحابه كان حسم باكراً، إنما هدفت إلى إرباك رئاسة الجمهورية في مسألة الاستشارات.
حجة الحريري في الإصرار على رفض إعادة توزير باسيل، هي الإشارة إلى رفضه توزير أسماء مستفزة للناس المنتفضين منذ 17 تشرين الأول. يضع جبران باسيل على رأس اللائحة، ثم يضم إليها علي حسن خليل وآخرين، مستثنياً نفسه، ومتوهّماً أنه الأنظف كفاً بين الجميع. وصل به الأمر إلى حد اعتبار أنه والسيد حسن نصر الله هما الوحيدان اللذان يريدان مكافحة الفساد في البلد.
بالنتيجة، لا يريد الحريري لباسيل أن يكون شريكاً على طاولة مجلس الوزراء، وهو الأكثر تعرضاً للهجوم منذ خمسين يوماً. أما باسيل، فيرفض أن يكون كبش محرقة السلطة، كما يطالب الحريري بالتزام التسوية الرئاسية التي تفترض الشراكة في الحكومة لمدة ست سنوات. لكن مع ذلك، ثمة من يترك باباً موارباً للحل. يؤكد أن أياً من الأطراف لم يعلن موقفه علناً. لا الحريري أعلن أنه حاسم في رفضه مشاركة باسيل، ولا الأخير ربط مصيره بمصير الحريري. ولذلك، فإن الرهان يبقى على مخارج متوافرة على الطريقة اللبنانية، أي لا غالب ومغلوب. أما متى يأتي وقت هذه المخارج، فهذا ما لا إجابة عنه.
في مقدمة «أو تي في» أمس، إشارة إلى أن مصادر التيار الوطني الحر «ترفض المشاركة في لعبة سياسية مكشوفة يقوم بها سواه، تماماً كرفضه أداء دور الشاهد الزور، لأن ما يحدث يؤذي البلد، ولا يؤدي إلى تحقيق الإصلاح الذي ينشده الناس، بل إلى إلغاء آخرين، تنفيذاً لغايات سياسية في الداخل والخارج».
وفي سياق متصل، كان لافتاً قول رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد «نريد أن نعرف ماذا يريد الحريري»، معتبراً أن «في النهاية سنجد حلاً لموضوع الحكومة، ولو طال الأمر شهراً أو شهرين».
الحريري متّهم من خصومه – شركائه بأمرين، أوّلهما الرضوخ لوصايا غربية جعلته يستقيل، وثانيهما الرضوخ لفيتو أميركي على توزير باسيل. هذا لا يعني تغييب الشق الداخلي للأزمة. الحريري لم يعد قادراً على التعايش مع باسيل، ولذلك سيعمل على خطين في الأيام المقبلة: إبعاد الأسماء المستفزة عن الحكومة، والسعي لحشد الدعم الدولي للبنان، حتى تكون عودته إلى الحكومة مقرونة بالقدرة على مواجهة الأزمة.
الإشارة الأولى في هذا الصدد ستكون الاربعاء، حيث تستضيف فرنسا «اجتماع عمل» دولياً «بغية مساعدته (لبنان) على الخروج من الأزمة السياسية»، وفقاً لما أعلنته وزارة الخارجية الفرنسية. وجاء في بيان الخارجية الفرنسية إن «اجتماع مجموعة الدعم الدولي للبنان الذي تتشارك في رئاسته فرنسا والأمم المتحدة، «يجب أن يتيح للمجتمع الدولي الدعوة إلى تشكيل حكومة فعّالة وذات مصداقية سريعاً، لتتخذ القرارات اللازمة لإنعاش الوضع الاقتصادي وتلبية التطلعات التي يعبّر عنها اللبنانيون». أضاف البيان «أنها مسألة تحديد المطالب والإصلاحات التي لا غنى عنها، المتوقعة من جانب السلطات اللبنانية، حتى يتمكن المجتمع الدولي من مرافقة لبنان».