كتب د.مصطفى علوش في “الجمهورية”:
«ألا أيها الظالم المستبد حبيب الظلام عدو الحياة
سخرت بأنّات شعب ضعيف وكفك مخضوبة من دماه
وصرت تشوّه سحر الوجود وتبذر شوك الأسى في رباه
حذارِ فتحت الرماد اللهيب ومن يبذر الشوك يجنِ الجراح»
(أبو القاسم الشابي)
منذ اليوم الأول للثورة كان الرهان الأساسي الذي اعتمد عليه ثلاثي السلطة: «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» وحركة «أمل»، هو قصر نفس المتظاهرين والمحتجين، يعني استخدام عامل الوقت لتجنّب تحقيق مطالب الثورة. لقد كان كلام حسن نصرالله واضحاً في خطابه الأول عندما أكد على تماسك مجتمعه وقدرته على الصبر والصمود، وتعامل بطريقة المستكبر المتفهّم مع مطالب المحتجين، مؤكداً عدم سقوط الحكومة.
وما يؤكد هذه المقولة أنّ الثلاثي ذاك كان يضغط على الرئيس سعد الحريري لعدم الاستقالة للسبب ذاته، بالرغم من أنه كان مقتنعاً منذ الأيام الأولى للثورة، خصوصاً بعد أن رفض الشارع حلّ الإصلاحات التي اقترحها، بأنّ المخرج الوحيد لوقف التدهور من جهة، والتحرر من عقم الشراكة مع جبران باسيل، من جهة ثانية، هو الإستقالة والذهاب إلى حكومة اختصاص. لم تصل المفاوضات إلى إقناع الثلاثي بضرورة الإتفاق على حكومة تعبّر عن انتصار الناس وتؤدي إلى اقتناعهم بوقف الثورة وبدء عملية العلاج الصعب، ولكن الممكن، للخروج من قعر الهاوية الإقتصادية.
في المحصلة اقتنع سعد الحريري بأنّ الإستقالة هي المخرج الوحيد، وإن من دون اتفاق على حكومة جديدة، وذلك لفتح باب البحث عن حل، خارج منطق التعسكر وراء السلطة أو شرعية مجلس النواب. إن كان التجاوب مع طلبات الناس أحد أسباب الإستقالة، لكن السبب الأهم كان لقناعة بعقم المنظومة التي حكمت الحكومة بالتعطيل والعجز عن أي إنجاز. المنطق الذي حاول اتّباعه، وكان لطمأنة القوى السياسية، هو أنه حتى ولو لم يكونوا في الحكومة، فهم ما زالوا في مجلس النواب، ويمكنهم السيطرة على أي حكومة من خلال التشريع.
ما قاله جبران باسيل للحريري: «كيف تستقيل وقد انتهت الثورة أو تكاد!».
يعني أنّ رهان باسيل مثله مثل رهان نصرالله هو على إنهاك الثورة، المقطوعة من شجرة، بالرغم من الإتهامات المتتالية حول التمويل الخارجي لتنفيذ أجندات أميركية وغيرها.
في الأيام التي تلت الاستقالة، كانت قناعة سعد الحريري أنّ حكومة مختلطة من اختصاصيين وسياسيين من النوع الخفيف الظل هي الوحيدة الممكنة في ظل التوازنات القائمة على الواقعية. وهناك معطيات أنّ هكذا حكومة كان من الممكن أن تبصر النور لولا المماطلة من رئيس «التيار الوطني» حول ذهابه مع الحريري أولاً، ومن ثم الأخذ والرد في كلام حَمّال أوجه.
وبعد أن طالت المماطلة، فهم الحريري الرسالة وقرر عندها رفع الشروط إلى حكومة اختصاصيين صافية، يمكنه أن يترأسها هو أو أي شخص آخر، وإلّا فالذهاب الى استشارات وليؤلّف من يؤلّف بناءً على ذلك. وهنا أيضاً بدأت تطرح أسماء وتحترق، لأنّ شروط رئيس «التيار» لإعادة إنتاج سلطته على الوزارات الدسمة في أي حكومة مطروحة، بقيت كما هي، بالمباشر أو باللف والدوران.
ولكن بعد انسداد الأفق، وبعد أن بدأت التحرشات البلطجية بمواقع الاحتجاجات من قبل أفواج الدراجات النارية، ذهب الحريري إلى إعلان موقفه بالانسحاب حتى من السباق نحو رئاسة الحكومة. وهنا كان المطلوب منه تغطية رئيس الحكومة الآتي، وإلّا فالاستمرار في تصريف الأعمال إلى ما شاء الله، وعندما ينهار كل شيء يكون هو في الواجهة.
عندما وافق الحريري على الحل المقترح بسمير الخطيب، كان الشرط ألّا تكون هناك وجوه نافرة في الحكومة الجديدة.
لكن، ومع كل ذلك استمرت مراهنة أهل السلطة على انهيار مقاومة الناس، ومن يظن أنّ انتحار الناس وجوعهم ومرضهم ومستشفياتهم العاجزة عن الاستمرار، وأموالهم المسجونة في المصارف هو ما سيدفع السلطة للإفراج عن الحكومة القادرة على الإنقاذ، يكون مخطئاً حتماً، فما يراهنون عليه هو هذا بالذات وهو أن يقتنع الناس بعودة المنظومة السابقة.
واليوم، وبعد اعتذار سمير الخطيب عن التكليف، وبصرف النظر عن المسبّبات الظاهرة، فإنّ الحل يبقى كما كان حتى ما قبل الثورة، وربما منذ سنوات أو عقود، هو بحكومة متحررة من القوى السياسية التي فشلت تركيباتها في إقناع الناس بأنها قادرة على الخروج بالبلد من قعر الهاوية، إمّا لعجز أو لفساد، والاثنان سيّان.