كتب مايز عبيد في صحيفة “نداء الوطن”:
لم تشفع صورة (أبو العبد كبارة) المعلّقة على جدار مبنى الفوال من انهياره وسقوطه. فصورة الزعيم كانت في يوم من الأيام تشكّل لدى الطرابلسيين حيثية، أما اليوم فما بعد 17 تشرين ليس كما قبله. صورة الزعيم لم تعد تشفع، حتى في قلوب الطرابلسيين، بعد السقوط الكبير والمدوّي الذي سقطه هؤلاء السياسيون من قلوب وأعين أبناء مدينتهم وفقرائها حينما تركوهم يموتون من دون نجدة.
شكّلت حادثة سقوط المبنى في الميناء ووقوع الضحيتين الشقيقين الشهيدين عبدالرحمن وراما كاخيا، جواباً واضحاً على سؤال كبير: لماذا طرابلس تثور؟ ولماذا ثورة طرابلس والميناء شعلة مستمرة لا تهدأ ولا تستكين!
الجواب باختصار هو أن “كل هذا الحرمان والفقر والتعاطي اللامسؤول من الدولة والحكومات المتعاقبة والسياسيين مع هذه المدينة وشعبها بلامبالاة وسياسات تهميش، دفعت بالشعب إلى أن يصبح مواطناً درجة عاشرة، وتحت خط الفقر، ففجّر الطرابلسي غضبه ثورة عارمة في وجه جلّاديه.
راما
وتركّزت إنتفاضة طرابلس في اليوم الخامس والخمسين في مدينة الميناء، التي اشتعلت غضباً وثورة على المجلس البلدي ورئيسه عبدالقادر علم الدين إثر حادثة وفاة الشاب عبدالرحمن كاخيا (19 سنة يعمل في فرقة زفة) وشقيقته راما كاخيا (18 سنة)، إثر سقوط سقف الطبقة الثانية في مبنى الفوال الذي كانا يقطنانه مع أقارب لهما عند الساعة الثانية إلا ربعاً من فجر يوم أمس الثلثاء.
المبنى أثري بملك “صادقة وفوال” ويعود بناؤه إلى أكثر من 100 عام. تسكنه 4 عائلات لإخوة من آل كاخيا. وهؤلاء المواطنون، كما أوضح الجار سمير شاكر، “أوضاعهم المادية سيئة، إنهم تحت الصفر. فجر الثلثاء وتحديداً عند الساعة الثانية إلا ربعاً تداعى سقف الطبقة الثانية من المبنى وانهار على ساكنيه. حاول الأهالي، في حي الأندلس حيث مكان المبنى، إنقاذهم وحتى الساعة السادسة صباحاً بما تيسّر من وسائل. لكنّ كمية الردم حالت دون استطاعتهم من إنقاذ عبدالرحمن وراما”.
مبنى الفوال
أما قصة مبنى الفوال في حيّ الأندلس فهو عبارة عن “مبنى أثري بطبقتين وقديم العهد. هو بحاجة إلى ترميم منذ مدة، وذلك بسبب التصدُّعات الموجودة في سقفه وجدرانه. العاصفة الأخيرة والأمطار التي حصلت أخيراً، استطاعت هذه المرة إسقاط سقف الطبقة الثانية فيما باقي المبنى بأكمله آيل للسقوط على رأس من تبقّى فيه في أي لحظة. حاول أصحاب المبنى، بحسب ما أكد الأهالي، “أكثر من مرة ترميمه وإصلاحه وقدّموا إلى بلدية الميناء طلباً بذلك، لكن البلدية رفضت بحجة أنه مبنى أثري وهو من اختصاص مديرية الآثار”. ولكون المبنى أثرياً ويحتوي على قناطر قديمة العهد، فقد قام مالكو هذا المبنى على غفلة قبل مدة، بفكّ هذه القناطر الأثرية ونقلها من المبنى بغرض البيع، الأمر الذي سارع في عملية إنهياره، كما أكّد عدد من سكان الحي.
الميناء تشتعل غضباً
صباح الثلثاء سمع أهالي الميناء بالخبر الصاعق. نزلوا بأعداد كبيرة وقطعوا طريق الكورنيش البحري بالإطارات المشتعلة. ثم توجهوا نحو مبنى البلدية وحطموا زجاجه. عمليات الكرّ والفرّ بين الجيش والمتظاهرين الغاضبين من أبناء الميناء استمرت حتى ساعات مساء أمس. شهدت المنطقة تحركات أمام “البيستاشيو” ومنزل رئيس البلدية عبدالقادر علم الدين الواقع على الكورنيش البحري خلف قصر الرئيس نجيب ميقاتي، وبعد تشييع الضحيتين إلى مثواهما الأخير في إحدى جبّانات الميناء القديمة، عاد المتظاهرون للتحرك أمام مبنى البلدية وعمدوا إلى تحطيم آلية ومكتب تابعين لها، واقتحموا مركز شرطة بلدية الميناء وأضرموا النار في آليات تابعة له. ترافق ذلك مع انتشار كثيف لعناصر الجيش الذي استطاع في ساعات بعد الظهر أن يشكّل حائط فصل بين المتظاهرين والمبنى البلدي، بعدما أعاد فتح الطرقات التي قُطعت من قِبل الأهالي الغاضبين.
وأجرت “نداء الوطن” مقابلات مع الأهالي الغاضبين أمام مركز البلدية. فالسيدة عدلة عودة خانجي من المشاركات في الإعتصام اعتبرت أنّ “ما حصل كان فاجعة على أهالي الميناء جميعاً. فعائلة كاخيا هي صبورة ومضحّية تعيش وسط البؤس الكبير الذي تعيشه طرابلس والميناء بشكل عام. تنام هذه العائلة خائفة على مصيرها من انهيار سقف مبنى، بينما وعلى مقربة من منزلهم هناك أغنى أغنياء طرابلس نجيب ميقاتي الذي لا أعتقد أنه يشعر إطلاقاً بكل ما يشعر به هؤلاء الفقراء. نعم هناك غضب كامن داخلنا من تراكمات فساد البلدية والمسؤولين. فالبلدية تقول إن كل شيء ليس من مهامها. لا ترميم ولا إنارة ولا طرقات… فما هي مسؤوليتها؟ هل مسؤوليتها هي فقط ملاحقة الفقراء وأصحاب البسطات؟ إن البلدية والدولة وكل مسؤول فاسد في هذا البلد مسؤول عمّا حصل”.
أما عمر درويش فشدد على ضرورة “استقالة عبدالقادر علم الدين والبلدية بأكملها. بلدية الفساد والسرقات لا نريدها وعليها أن ترحل لأنها مسؤولة عن كل شيء”.
البلدية مسؤولة واستقالات
من جهته حمّل عم الضحيتين أحمد كاخيا في حديث إلى “نداء الوطن” البلدية المسؤولية وقال: “ما زالت هناك عائلات تسكن المبنى وأنا منهم، لأنه ليس لنا أي مأوى آخر. ما حصل وسيحصل تتحمّل البلدية كامل المسؤولية عنه لأنها رفضت ترميم المبنى”.
وإذا كان من غير الممكن فصل الإحتجاجات والغضب الشعبي العارم الذي شهدته مدينة الميناء في أعقاب انهيار المبنى ووقوع الضحيتين، عمّا حصل قبل أيام في انتخابات اتحاد بلديات الفيحاء التي آلت رئاسته إلى علم الدين، والغضب الشعبي حيال ذلك، فإنّ المشهد برمّته لا يمكن فصله عن مشهد الثورة التي تعيشها طرابلس والميناء، خصوصاً مع الإحتجاجات التي وصلت إلى منازل أعضاء المجلس البلدي (الميناوي) للمطالبة باستقالة أعضائه.
بعد اقتحام بلدية الميناء
وفي حين أعلن عضو المجلس البلدي عبدالرحمن لبدة إستقالته، فقد عقد الأعضاء الآخرون اجتماعاً لبحث التطورات أصدروا في ختامه بياناً طالبوا فيه رئيس البلدية عبدالقادر علم الدين بالإستقالة من رئاسة البلدية واتحاد بلديات الفيحاء. ووضعوا استقالاتهم بتصرّف أهالي الميناء. أما ما منعهم من الإستقالة الجماعية فكان الخوف من أن تؤول بعدها أمور البلدية والإتحاد إلى المحافظ رمزي نهرا، “لأنه شخصية مرفوضة من أبناء الميناء وطرابلس والثورة معاً”. في هذا السياق أصدر مخاتير الميناء أيضاً من جهتهم بياناً دعوا فيه “الهيئة العليا للإغاثة إلى تحمّل مسؤولياتها في ترميم المبنى وإيجاد مبنى بديل للعائلات التي تقطنه”.