كتبت رلى إبراهيم في صحيفة “الأخبار”:
تدور حرب باردة بين هيئة تنسيق الثورة وبعض المجموعات الناشطة في الثورة. الأسباب ليست كثيرة، لكنها تتراوح ما بين فرض الهيئة نفسها كناطق باسم الثوار، وضمها لحزب سبعة «السيّئ السمعة». أخيراً دخل بعض المصلحين على خط عقد اجتماع للمّ الشمل وإرساء أرضية حوار مشتركة
منذ انطلاقة ما يُسمى بـ«هيئة تنسيق الثورة» التي أذاع بيانها الأول العميد المتقاعد جورج نادر من ساحة الشهداء، بدأت علامات الاستفهام تتكاثر حول هدف هذه الهيئة وتوجهات أعضائها. وكلما أصدرت الهيئة بياناً، زاد توتر المجموعات الأخرى، لعدة أسباب أهمها اسم الهيئة بشكل خاص. فمن عمد إلى إطلاق تسمية «هيئة تنسيق الثورة على نفسه، يدرك ضمنياً أنه سيتم التعامل مع البيانات الصادرة عنه على أنها تمثل كل المجموعات وخصوصاً مع المبالغة في أعداد المجموعات المنضوية ضمن الهيئة»، يقول شبان من مجموعات خارج الهيئة، رافضين نشر أسمائهم. إلا أن ما لا يقوله هؤلاء مباشرة أن إحدى المشكلات الرئيسية مع الهيئة، هو ضمّها حزب سبعة إلى صفوفها. فيما المشكلة الأخرى تتعلق بأسلوب عمل هيئة التنسيق وإصرارها على عقد مؤتمرات صحافية للإيحاء بحيازتها على تفويض رسمي، بينما يمكن الاكتفاء ببيان من دون «همروجة إعلامية». الاعتراض الثالث هو على تأييد بعض المجموعات المنضوية في الهيئة لحكم العسكر واقتناعهم بضرورة حصول انقلاب عسكري يؤدي إلى تسلم الجيش زمام الحكم. «الثغرة هنا»، يقول قائد إحدى المجموعات، بأن «هيئة التنسيق تدّعي ضمها لنحو 80 مجموعة زوراً، والدليل الحشد الذي واكب دعوة العميد نادر للاعتصام أمام المرفأ، ومن تظاهروا على طريق القصر الجمهوري بطلب من حزب سبعة». بنظره، «لا مصداقية لهؤلاء لدى الناس وخصوصاً مع ارتباط أسمائهم ببعض الأجهزة الأمنية». ظلت الانتقادات مدفونة إلى حين عقد الهيئة لمؤتمر صحافي يوم الأحد الماضي. تلت مقررات اجتماع الهيئة يومها كارلا علام، إحدى الناشطات في مجموعة «التيار/الخط التاريخي» التي تضم شابات وشباناً فُصلوا من التيار الوطني الحر أو استقالوا أو خيب آمالهم كل من رئيس الجمهورية ميشال عون ووزير الخارجية جبران باسيل. لم يكن مضمون الكلام مستفزاً لأي مجموعة بل كان رفضاً «لمهزلة التأليف قبل التكليف، ورفضاً لترشيح رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري لرئاسة الحكومة من جديد». كذلك دعت الهيئة الى «إجراء انتخابات نيابية مبكرة وفق القانون النسبي وتخفيض سن الاقتراع إلى 18 سنة»، الأمر الذي لا يزال محور اختلاف بين المجموعات الناشطة. بسرعة، نُظمت حملة على كارلا علام، وتم تخوينها وإطلاق الشتائم والصفات المسيئة لها، عبر نشر صور من حسابها على موقع «فايسبوك» تجمعها بباسيل والنائب العوني آلان عون. الصور تلك تعود إلى عام 2016، فيما كل منشورات علّام الأخيرة تحمل انتقادات سياسية لأداء التيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية. بدا واضحاً لبعض أعضاء الهيئة أن الهدف وراء الحملة هو «شيطنتنا بمختلف الطرق عبر وضعنا في خندق واحد مع الأحزاب السياسية وتصويرنا وكأننا ننفذ أجنداتهم».
في الأصل، تضم الهيئة نحو 67 مجموعة. وربما لذلك، يقول بعض أعضاء تلك المجموعات، ثمة مسعى منذ اللحظة الأولى لفكّ ارتباطات هذه المجموعات، بعد أن نجحنا في خلق مساحة مشتركة لعدد أوسع من الشابات والشبان من مختلف المناطق ويحملون أفكاراً متنوعة. حملة التشهير بالهيئة، وفقاً للعميد المتقاعد جورج نادر، تدرّجت من «قواص حركة أمل وحزب الله والتيار الوطني الحر في الشهر الأول علينا بأننا نتحرك عبر توجيهات من الحزب الاشتراكي والقوات وتيار المستقبل، إلى حملة قواتية بأغلبيتها ويشارك فيها بعض شباب تيار المستقبل بأننا ننتمي إلى التيار الوطني الحر؛ رغم أن كارلا تركت التيار منذ عام. ندرك جيداً أن القوات والمستقبل مش شايفين إلا سعد وهالهم رفضنا علانية وعبر مؤتمر صحافي لإعادة تكليفه. ونحن ما شايفين الفريقين. علماً أن بعض الذين شاركوا في الحملة علينا عبّروا عن طيبة قلب وغيرة على الثورة لا أكثر». يرفض نادر ما يحمّله إياه عدد من المجموعات عن ادّعاء الهيئة قيادة الثورة، نافياً أن يكون أي عضو في الهيئة قد قال أي كلمة في هذا الإطار.
نادر: «حزب سبعة» لم يعد عضواً في «هيئة تنسيق الثورة»… وهو منذ البداية يعمل لوحده
ويتحداهم بإبراز أي تصريح أو بيان أو منشور يدل على ذلك: «البعض مزعوجون من التسمية. نحن 67 مجموعة ننسق في ما بيننا ومع المجموعات الأخرى. شعاراتنا واضحة وهي ضد تدخل المرجعيات الدينية في تسمية المرشحين، ونؤكد أنه إذا ما أعيد تكليف الحريري سنعود إلى يوم مماثل ليوم 17 تشرين الأول. وهنا تتحمل السلطة السياسية كل ضربة كفّ ونقطة دم». يشير نادر إلى أن هناك غرفاً سرية للأحزاب وجيوشاً الكترونية همها الرئيسي ضرب الثورة وأكبر صورة لتحالفهم ظهر في انتخابات نقابة المحامين. «وصل الأمر بهذه الأحزاب إلى اتهامي بالعمالة للولايات المتحدة… نحن أوامرنا من جوّا… من الساحات وإذا كان يملك أحدهم أي دليل على تنسيق أي عضو من هيئتنا مع أي طرف مشكوك في أمره فليبلغنا بذلك». وبحسب نادر، حزب سبعة لم يعد عضواً في هيئة التنسيق، «وهو منذ البداية يعمل بمفرده من دون التعاون معنا».
أخيراً تدخل بعض المصلحين لإنهاء الحرب الباردة بين هيئة التنسيق وبعض المجموعات الأخرى كـ«بيروت مدينتي» و«لحقي» و«كلنا وطني» والكتلة الوطنية و«لبنان عن جديد» والحزب الشيوعي وغيرهم. يقوم هؤلاء بمبادرة لإرساء مساحة مشتركة بين الجانبين بعيداً عن التوضيحات والتوضيحات المضادّة. تقرر عقد اجتماع مشترك لم يُحدد ما إذا كان نهار الجمعة المقبل أو السبت، للتوافق حول أفكار أساسية كإجراء الاستشارات النيابية وتشكيل حكومة في أسرع وقت على أن تكون «نظيفة» ومؤلفة من «كفاءات إنما خالية من حيتان السياسة المعروفين». الكل متفق مسبقاً على «رفض فرض المفتي لسعد الحريري كرئيس حكومة وهو ما عبّرت عنه غالبية الناشطين على مواقع التواصل، إلا أن المحطات التلفزيونية لم تنقل الآراء المعبّرة عن هذا الرفض، لأسباب نجهلها».
واهمٌ من اعتقد أنّ الرئيس ميشال عون في صدد التراجع أمام ضغط الشارع، أو أمام من تحصّن بالشارع. الرجل ليس من صنف الشخصيات التي تتهيّب المواقف الصعبة أو الاختبارات الخطيرة، لا بل تزيده تلك الظروف، صلابة ورفضاً للاستسلام… فيتقدّم إلى الأمام وعينه على الهدف.
بهذا المعنى، ستكون الجولة الجديدة من المشاورات الحكومية صعبة جداً، بعدما أقفلت دار الفتوى نادي الترشيحات لرئاسة الحكومة على رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري، أو من يمثله. إنها العودة إلى المربع الأول، والقاعدة الأساس: سعد الحريري وجبران باسيل.
هذه “المعادلة القاتلة” هي التي أنتجت سيناريوات ترشيح من خارج “بيت الوسط”، نظراً إلى إصرار عون على التصدي لدفتر شروط الحريري والقاضي بإخراج باسيل من الحكومة، فأتت بالوزير السابق محمد الصفدي، ومن ثم بهيج طبارة، ومن بعده سمير الخطيب. وها هو فؤاد المخزومي يستعد لدخول نادي المرشحين!
يرفض رئيس الجمهورية السماح لرئيس حكومة تصريف الأعمال باستخدام رمال الشارع المتحركة، لفرض انقلاب سياسي يكون هو بطله، وباسيل “ضحيته”. ولهذا لم تجد مطالب الحريري مخرجاً ذكياً يسمح له بالغوص في مفاوضات جدية مع بقية شركائه الحكوميين لإعادة تأليف حكومة ما بعد 17 تشرين.
حتى اللحظة، يغلّب عون خيار حكومة الأكثرية النيابية على ما عداها. لا يرى نفسه مضطراً لمجاراة الحريري في لعبة حرق الأسماء والوقت. يقرّر كما دوماً، الذهاب إلى الأمام. لكن ممانعة الثنائي الشيعي هي التي تحول، إلى الآن، دون ذلك.
ولهذا، قد لا تجد آذان العاملين على خطّ المقار الرسمية، الكثير من الإصغاء، طالما أنّ كل فريق يتسلّح بموقفه ويرفض التراجع عنه لتقديم أي تنازل.
“سؤال المليون” الذي يشغل بال الكثيرين: كيف صار الحريري بين ليلة وضحاها شخصية محنّكة قادرة على المناورة؟
بعض من يعرفون الرجل يعتقدون أنّ هناك أكثر من عامل لعب دوره في بلورة سلوكه في المرحلة الأخيرة، وجعل من عودة المياه إلى مجاري علاقته بباسيل، ضرباً مستحيلاً:
أول تلك العوامل، هو انكفاء ضابط ايقاع العلاقة، رجل الأعمال علاء الخواجة، والذي لعب دوراً توفيقياً في الكثير من المراحل.
ثانيها، الاعتبار الشخصي الذي دفع الحريري إلى “الأخذ بالثأر” من المرحلة السابقة، التي قضمت من طبق شعبيته وصوّرته وكأنه تابع لمنظومة باسيل لا شريكاً له.
ثالثها، العنصر الجديد الذي فرضه الحراك الشعبي على طاولة الحسابات السياسية، حيث يتصرف الحريري على قاعدة أنّ الشارع “أكل” العهد ومعه “التيار الوطني الحر”، وبالتالي هي فرصته الذهبية لتعويض ما تعرض له من ضرر طوال الحقبة الماضية.
رابعها، حرص الثنائي الشيعي على رفع ترشيح الحريري إلى المرتبة الأولى، خلافاً لوجهة نظر رئيس الجمهورية، ما زاد من رصيده في معركة التفاوض.
ورغم ذلك كله، يقول المطلعون على موقف الحريري، إنّ الخشية من انفجار القنبلة المالية – الاقتصادية تدفعه إلى التردد، ولذلك إذا ما أطلقت يداه في الحكومة، فسيكون متحمساً لإعادة تشغيل مولداته لا سيما في عواصم القرار بحثاً عن منقذ للمالية العامة. ولكنه في هذه الحالة، يواجه تصلّب “حزب الله” الرافض وضع “رقبته” تحت مقصلة حكومة خالية من الدسم السياسي، ولذا يتحصن باتفاق الطائف لدفع أي رئيس حكومة مكلف إلى احترام موازين قوى البرلمان واحترام نتائج الانتخابات النيابية.
ولهذا يؤكد هؤلاء أنّ نهاية سيناريو ترئيس سمير الخطيب لم تكتب أبداً في “بيت الوسط” كما يعتقد كثيرون. يشيرون إلى أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال كان جدياً في دعمه لمدير “خطيب وعلمي”، لكنه في النتيجة غير قادر على تغطيته سنياً. لا بل أكثر من ذلك، يجزمون أنّ رئيس “تيار المستقبل” طلب من فريقه الاستشاري الاقتصادي وضع سلّة الخطط والمشاريع الاقتصادية والاستثمارية في عهدة الخطيب، لتكون على طاولته فور تسميته رئيساً مكلفاً. ويضيفون أنّ الحريري كان يستعد للتوجه إلى المغرب فور الانتهاء من الاستشارات النيابية ليبدأ إجازة طويلة، قبل معاودة نشاطه السياسي.
وفي هذا السياق، يلفتون إلى أنّ الحريري “أُلبِس” تهمة حرق الخطيب لاعتبارات سنّية بحتة. وهذا ما يفسّر تقبّله على مضض دور رؤساء الحكومة السابقين، بعدما صاروا “شريكاً مضارباً” له في القرار السني، ويحرجونه مزايدةً ومن خلال رفع سقف الخطاب. ولهذا يجوز القول إنّ الحريري لا يستطيع تغطية بديل عنه يرضي الثنائي الشيعي، في المقابل لا يرضى الثنائي ببديل لا يستطيع الحريري تغطيته. وتلك معضلة أساس لا تقلّ تعقيداً عن معادلة الحريري- باسيل.