كتب فراس الشوفي في “الاخبار”:
يحضّر النائب السابق وليد جنبلاط نفسه لما بعد الانهيار الاقتصادي الكبير في البلاد، بما يخدم استمرار زعامته وتحوّلها إلى حاجة، من القمح إلى الدواء… والدعاية!
يتفوّق النائب السابق وليد جنبلاط، بخبرته وجينات عائلته الاقطاعية، وما تبقّى من خصوصيات طائفة الموحدين الدروز اللبنانيين، على أترابه من الزعماء التلقيديين. فهو يحمل في أعماقه كل ما تعلّمه أجداده من أسرار الإبقاء على الزعامة، طوال 300 عام، شهد خلالها المشرق العربي تحوّلات وجودية وتاريخية متعدّدة.
واليوم، تفرض الأزمة اللبنانية وتطوّرات الإقليم تحديّات كبيرة على عاتق الزعامة الجنبلاطية، المأزومة بعقبات التوريث، وانفجار الاجتماع اللبناني نحو صيغة جديدة، أكبر ضحاياها التقليد، بكل أشكاله.
فالانتفاضة الشعبية التي بدأت في الشوف وعاليه كما في باقي المناطق، كانت ثمرة سنوات من السياسات الزبائنية المعتمدة في الجبل بحدّة تزيد عن بقية المناطق اللبنانية. وهي كردّ فعل، امتداد لنتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، التي سجّلت حصول «مستقلين» وجمعيات وأفراد على ما يزيد على 10 آلاف صوت، من خارج الاصطفاف السياسي. وبقدر ما أقلقت نتيجة الوزير السابق وئام وهّاب وليد جنبلاط، أقلقته نتيجة الخارجين من الأسراب. صحيح أن الكثير من هؤلاء يحمل انتماءات سياسية من رحم الأحزاب الوطنية، من الشيوعيين والقوميين، وآخرين يرتبطون بمنظمات غير حكومية، لكنّ عدداً غير قليل من هؤلاء إمّا خرجوا عن عائلات جنبلاطية، أو حتى كانوا محازبين ومسؤولين في الحزب الاشتراكي، من جيل شاب، اصطدمت أحلامهم بالتغيير مع الواقع الحزبي والسياسي. ومن بين هؤلاء أيضاً، جيلٌ من العائدين إلى «الأرض»، اكتشفوا على دفعات خلال السنوات العشر الماضية وحشية المدن، فقرروا العودة إلى قراهم، بصمت، والعيش من الزراعة والسياحة البديلة بسلام نسبي، لكنهم سرعان ما اصطدموا بهيكليات الريف البالية، وقبضة الإقطاع. وما يوحّدهم جميعاً هو الحاجة إلى التجديد والانقلاب على الماضي.
المشهد قد يبدو قاتماً بالنسبة لآخرين، وهو كذلك بالنسبة لجنبلاط. لكنّ الثقافة السياسية، وفن الخدعة، وحضور الغاية التي تبرّر الوسيلة، تسمح لصاحب «لحظات التخلّي»، بالتكيّف مع المستجدّات عبر الإقرار الضمني وأحياناً العلني بالهزيمة، والعمل على الاحتواء للحدّ من الخسائر، وتحويل الأخطار إلى فرص.
وبحنكة عتيقة، ينخرط جنبلاط منذ أسابيع في ورشة مستعجلة، للاستعداد لمرحلة ما بعد الانهيار الكامل في البلاد، عبر تحويل زعامته من أبرز أسباب الانهيار، إلى حاجة لأهالي الجبل، في ظلّ الغياب المنتظر لأجهزة الدولة. ولعلّ أكثر ما يهمّ جنبلاط من «صحوته»، هو الحملة الدعائية التي تنتشر هذه الأيام، وتسليط الضوء على «كرم البيك». فهي من جهة، تعيد تسويق الدور لدى الموحدين الدروز اللبنانيين، بتثبيت الزعامة الجنبلاطية كحاجة للأمان الاقتصادي والاجتماعي في سبيل «حماية الطائفة». ومن جهة ثانية، تحضير المبرّر الأخلاقي للأموال اللامتناهية التي جمعها جنبلاط منذ بداية التسعينيات، حين قلب الصفحة، لأن «زمن الحرب قد انتهى وبدأ زمن جمع الثروات».
بالشّكل، استدرك رئيس الاشتراكي أن الإبقاء على وجوهٍ قديمة سيشكّل خطراً في مرحلة ما بعد 17 تشرين، وشبهات الفساد التي «ينقّ» عليها الاشتراكيون أنفسهم. فذهب إلى تعميم أجواء في منظومته وإبلاغ عدد من المشايخ المؤثرين، بأن الوجوه القديمة ستنسحب من المشهد بالتدريج ولا سقف فوق أحد إن كان متورّطاً بالفساد، وأن من سيقود المرحلة هو النائب تيمور جنبلاط وشقيقته داليا، مع تعويل كبير على وجوه جديدة. وكذلك الأمر في داخل الحزب، إذ يعقد جنبلاط اجتماعات مع خبراء وحزبيين لإيجاد صيغة لتحويل الحزب إلى حزب جديد، وتطوير هيكليته وأجهزته الإدارية. وبالفعل، أبلغ جنبلاط عدداً من المسؤولين ووكلاء الداخلية بأنه اتخذ قراراً بتغييرهم، مع إيجاد مخارج لائقة لهم. لكنّه، وللمفارقة، بدأ التغيير بالمسؤول الإعلامي في الاشتراكي رامي الريّس، الذي لم ينخرط في أي منصب عام، فيما لا يزال وزراء ونوّاب ترتبط أسماؤهم بملفات فساد في البلاد، يصولون ويجولون وينقلون الرسائل وينظّمون العمل داخل الحزب.
أمّا الاستفاقة المتأخرة، فهي استدراك جنبلاط لنتائج سياساته في الشوف، وتحوّل الأرض إلى «بور»، على مشارف كارثة مالية واقتصادية. فبدأ مؤخراً بإحصاء قطع الأرض والتواصل مع البلديات وملّاكي العقارات لزراعة الحبوب، وتعهّد الحزب الاشتراكي تأمين المستلزمات وبعض المعدات.
غير أن رئيس الاشتراكي في «خطته» الزراعية الجديدة، لم يكن مبادراً، بل تحرّك بعد انتشار المبادرات الفردية والجماعية – وهي أكثر ما يقلق زعيماً مثل جنبلاط – من مجموعة من الشباب خلقوا وعياً زراعياً في بيئة خصوصية تراكمت في السنوات الماضية.
وشرع الحزب في إجراء إحصاء سكاني للعائلات الفقيرة لتأمين المساعدات والمواد الغذائية لها، وتعهدّ بتأمين مستلزمات المحروقات لبعض العائلات والمدارس خلال فترة الشتاء. وكذلك الأمر بالنسبة للقطاع الطبي، إذ يعمل الاشتراكي أيضاً على تسجيل أسماء مواطنين يتعالجون بأدوية لأمراض مزمنة، بالتوازي مع السعي لتأمين بعض الحاجات الطبية الإضافية لأكثر من مستشفى في الجبل. ويجري الحديث عن انتظار جنبلاط مساعدات دوائية من جهات أوروبية وفرنسية، سبق للحزب الاشتراكي أن عقد معها اتفاقيات شراكة.
ومع أن جنبلاط يحاول طمس معالم أي إجراءات أمنية أو عسكرية يعمل عليها الاشتراكيون، حتى لا تُفهم تحوّلاً في الموقف من قبل آخرين، كحزب الله، إلّا أنه لا يهمل هذا القطاع الذي يعد ذراعاً مهمّاً من أذرع الزعامة في فرض الهيمنة. وفي حين وسّع الاشتراكيون النطاق الأمني لقصر المختارة، وعزّزوا انتشارهم الجديد بكاميرات المراقبة، تعمل الدوائر الحزبية على تنظيم مجموعاتها بهدوء وتحضيرها لوقت يصبح فيه فرض الأمن في مناطق نفوذ الحزب الاشتراكي حاجة للجميع!
لا يُلام جنبلاط إن دغدغت أحداث اليوم أحلام الماضي التي فرضها الواقع لسنوات قصيرة، فأنتجت إدارة مدنية وحوّلت الحزب إلى جهاز قمع. لكنّه عصرٌ مختلف، وديموغرافيا مختلفة، ولو أن المنطقة واقفة على حدّين.