كتب أحمد الزعبي في “الاخبار”:
على طريقة المتوالية الحولاء، تدور الأزمة الحكومية في دائرة تبدو مقفلة، بين من يريد سعد الحريري على رأس الحكومة العتيدة شرط أن تتمثل فيها القوى السياسية جميعاً، ومن لا يريد المشاركة بحكومة يرأسها الحريري ويتمسك بحكومة اختصاص رئيساً ووزراء، وبين من يشترط حكومة اخصاص ليرأسها! وفي النتيجة البلد ينهار والسيناريوات السوداء تملء فضاء النقاش الذي لا يماثل تحديات المرحلة.
من المفترض أن تجري اليوم الاستشارات النيابية الملزمة بعد تلك التي ألغيت الأسبوع الماضي في أعقاب اعتذار سمير الخطيب، وبعد 48 يوماً على استقالة حكومة الحريري، و61 يوماً على الانتفاضة الشعبية التي دخلت شهرها الثالث، وسط سؤال رئيس وضروري في حال تمت تسمية الحريري (كما بات محسوماً) أو من يختاره؛ هل سيقبل الشارع بذلك، وهل ستلبي الحكومة العتيدة مطالب الناس في الساحات، وهل ستتمكن من منع الانهيار الذي تبشّر به التقارير المرعبة التي تتحدث عن المؤشرات السلبية للوضع المالي للبنان، واحتمالات دخوله مجبراً تحت وصاية البنك الدولي وصندوق النقد وما يعنيه كل ذلك من تبعات وتداعيات؟
إذن، وفيما الأزمة تكبر، وفرص الانقاذ تضيق، والمخاوف تتعاظم تأتي الاستشارات بعد أيام من انعقاد مؤتمر باريس لدعم لبنان، وتكرار الدول المشاركة – للمرة الألف ربما – ضرورة تشكيل حكومة تلبي تطلعات الشعب اللبناني، والبدء سريعاً بالإصلاحات الضرورية وإقرار موازنة 2020، والحفاظ على الأمن الاجتماعي، مؤكدين أن «أي دعم مالي من مؤسسات تمويل دولية سيتمحور حول مساعدة السلطة اللبنانية للتمكن من بذل الجهود حتى تتوصل في النهاية إلى تحقيق الاصلاحات المطلوبة». بمعنى أوضح البيان أشبه بصرخة دولية في وجه الطبقة السياسية المتحكمة في لبنان بأن التذاكي والاحتيال الكلامي والوعود العرقوبية ما عادت تطعم خبزاً، وساعدوا أنفسهم حتى نساعدكم.
في السياسة، تأتي جولة الاستشارات الجديدة بعد إعلان رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير المقال بضغط الثورة جبران باسيل عزوف تياره عن المشاركة بالحكومة، واشتراطه حكومة اختصاصيين، رئيساً وأعضاء، للمشاركة، مكرراً معزوفة الميثاقية على قاعدة استخدامه الديماغوجي المغلوط والمكرر لها كأداة للتعطيل، في مواقف عكست محاولة تعويم للذات بوصفه أحد أكثر الوجوه التي تقاطعت مطالب مجموعات المنتفضين على رفض عودته للسلطة التنفيذية.
كذلك تأتي جولة الاستشارات الجديدة بعد كلام للأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله، اعتبر فيه أن اشتراط الحريري لحكومة اختصاصيين «غير مناسب وإلغائي»، وخلص إلى رسم مزيد من الشروط، من دون طرح حلول والتلويح بعرقلة أي حلول مطروحة (وفوق ذلك مطالبة حكومة تصريف الأعمال بالقيام بأعمالها!!).. ما يعني باختصار، عطفاً على المواقف السابقة، أن لا حكومة في الأفق ولو حصلت الاستشارات، وما يعني أيضاً ترك الناس للموت جوعاً وانتحاراً، وفتح الباب أمام فوضى عامة قد تنزلق بالبلد لكارثة كبرى.
مع السقف السياسي المرتفع، بدا خلال اليومين الأخيرين، وخصوصاً ما حصل ليل السبت – الأحد، عودة السلطة إلى ثلاثي:
الفوضى المتنقلة سواء في الطرقات أو أسعار الصرف والمواد التموينية والسلع الحياتية، وإلهاء الرأي العام بقضايا هامشية حول الفساد القضائي أو الإداري وغيرها لحرف الأنظار عما هو أكبر، عن كارثة استعباد الناس وإذلالهم على أبواب المصارف مثلاً.
العنف المفرط من قبل الأجهزة الرسمية بانتقائية مستهجنة ومرفوضة تعزّز القناعة بأن الفساد طال كل شيء.. كل شيء.
الممارسات الميليشوية ضد المدنيين والتي يتكرر استخدامها لخنق الثورة ولإيصال رسائل ورسم حدود التفاوض والموقف السياسي.
أرادت قوى السلطة القول إن هذه الأمور هي ما يحدد مسار الأمور في لبنان، لا العمل السياسي والمؤسساتي، أو احترام الدستور، أو استشعار ضغوطات التحديات الراهنة، أو الاستجابة لمطالب الناس. وكل ذلك طامة كبرى بصرف النظر عن الاسم أو اللااسم في عملية شكلية قد يراد منها عكسَ ما رسمه الدستور وما تقتضيه مواجهة الأزمة!
فوق ذلك، بدا أن المعطى الخارجي حاضر وقائم في البازار، بين تهديدات غامضة وملتبسة لجنرال ايراني بتحويل تل أبيب إلى تراب انطلاقاً من لبنان، وردّ بنيامين نتنياهو أمس بأنه «إذا تجرأ حزب الله على شن هجوم على إسرائيل، فإن التنظيم ولبنان بأكمله سيدفع ثمنا باهظا لأنه يسمح للحزب بشن الهجوم من أراضيه»!
وبعيداً عن المواقف السياسية، في السيناريوات المتداولة خلال الساعات الأخيرة، أن تسمية الحريري بأكثرية مريحة باتت محسومة، من خلال الثنائي الشيعي (تسمية ومشاركة)، و»القوات» (تسمة من دون مشاركة) بالاضافة للأصوات التقليدية المؤيدة له، ومن شأن هذا السيناريو تتويج الحريري رابحاً مما حصل منذ 17 تشرين أول. لكنه أيضاً يطرح اسئلة عما إّذا كان الحراك سيقبل بهذه التسمية، أو سيقبل بأن يتمثل بالحكومة العتيدة، ومن سيختار ممثلي الحراك في حال قبوله بذلك، خصوصاً وأن مكونات الحراك متباينة في بينها أكثر من مكونات السلطة نفسها.
السيناريو الثاني: تكليف الحريري، ثم عرقلة مهمته ومنعه من التأليف عبر إغراق مهمته بالشروط والفيتوات والطلبات، خصوصاً وأن الحريري متمسك – بحسب ما يقول – بحكومة اختصاص تواجه التحديات وتتفرغ لحلها، وهذا ما يعارضه الثنائي الشيعي المتمسك بحكومة تكنو – سياسية.
أما السيناريو الثالث فالتلطي خلف شعارات الشارع لحرق اسم الحريري، وهو ما أراد شغب ليل السبت قوله، حتى لو تمت تسمية رئيس «المستقبل» بأغلبية نيابية بسيطة، ذلك أن الرئيس عون يمتلك قدرة التعطيل من خلال عدم القبول بالأسماء المسيحية المطروحة، خصوصاً وأنه هو من سيوقع على التشكيلة الحكومية.. هكذا تكون الحكومة غير قريبة ولو حصلت الاستشارات، ونكون أمام سيناريو تأجيل جديد «كرمى لعيون جبران».
ما هو واضح وأكيد أن أركان السلطة يسعون للتنصل من المسؤولية عما وصلت إليه البلاد من إفلاس وإنهيار وفوضى وخراب وضياع، ويعودون للتنازع، بوقاحة، حول الحصص والمغانم والمكاسب! في المقابل، الشعب كله ضحية للكارثة التي أصابت لبنان جراء سياسات المكابرة والفساد وفائض القوة والإدارة السيئة للدولة، اقتصادياً ومالياً، على مدى سنوات، وتخريب علاقات لبنان العربية والدولية، وضرب مصالح المغتربين حول العالم.
في النهاية.. الحكومة ستتشكل، بصرف النظر كيف وبرئاسة من، لكن هل ستستطيع الوقوف أمام طاحونةٌ الفساد؟ وهل ستوقف الانهيار الحاصل. المدخل المنطقي والثابت لكل ذلك أن الشعب ما عاد يثق بالطبقة السياسية، ولن يقبل بالسكون عن فسادها، وبعد الحكومة المطلوب قانون انتخاب سليم، فانتخابات، ومن ثم فتح ملفات الفساد والأموال المنهوبة.