كتبت فاتن الحاج في “الاخبار”:
من يسمع ممثلي المركز التربوي للبحوث والإنماء يتحدثون في مؤتمر «التعليم الأساسي الرسمي في لبنان» عن وضع منظومة تخطيط محكمة ومقاربة الأطر المرجعية للمعلمين والمناهج التدريبية لتحسين جودة التعليم ومنتجاته، ومحاكاة التلميذ الناقد والمسائل، يشعر بانفصام حقيقي بين هذه «السياسات الطموحة» والواقع الحالي للتعليم والنتائج التي يحققها التلامذة في الاختبارات العالمية
لم يكن متاحاً أمام المعلمين والمديرين المشاركين في مؤتمر «التعليم الأساسي الرسمي» الذي نظمته المنطقة التربوية في الجنوب والحركة الثقافية في لبنان، أول من أمس، عرض تجارب حية من الصفوف ومع الطلاب تعكس واقع هذا التعليم وتحدياته. الانطباع الأساسي الذي خرج به بعض المؤتمرين هو أنّ البرنامج كان مزدحماً بعناوين يصلح كل منها ليكون عنوان مؤتمر بذاته.
إلاّ أنّ الانطباع لا يحجب امكان البناء على إضاءات بعض المحاضرين على مواطن الخلل بشأن مسؤوليات الدولة وتوجهاتها تجاه المدرسة الرسمية.
بالنسبة إلى المنسق العام للمؤتمر الباحث التربوي ماجد جابر، «لا تتعاطى السياسات التربوية الرسمية مع هذه المدرسة على أنها نواة الهيكل اللبناني والمكان الذي يلتقي فيه الكل بالكل والمساحة التأسيسية التي يبنى فيها اتجاه جماعي لجيل مؤمن بوطن واحد، وبالتالي أصبحنا بحاجة إلى ثورة تربوية تجاه خطط سليمة». المدرسة الرسمية محكومة بوتيرة ونبض المنظومة التي تحتضنها وهي الإدارة العامة، كما قالت عميدة كلية التربية في الجامعة اللبنانية تيريز الهاشم، «وبما أنه لا يمكن للجزء أن يكون أفضل من الكل، نستنتج أنه لا يمكن أن يكون حال المدرسة الرسمية أفضل من حال الإدارة العامة» أو هذا ما سمته «الحتمية القاسية» التي «يجب أن يكسرها كل منّا». بحسب الهاشم، لا أحد يعرف بدقة ما هي الفلسفة التربوية الحقيقية هنا، «وما نقرأه يصح أن يقال في أي دولة وفي أي مكان وزمان. لم يرد في الدستور كلام واضح عن مسؤولية الدولة في التربية والتعليم وما إذا كانت ملزمة برعاية التعليم الرسمي، وإمكان ترجمة ذلك إلى سياسة تربوية شاملة».
الهاشم أشارت إلى أنّ النظم الاقتصادية الأكثر رأسمالية وليبرالية في العالم هي الأكثر انفاقاً على التعليم الرسمي، وقد استطاعت أنّ تحيّده عن تجاذبات السوق والمنفعة وحققت فعلياً الزامية التعليم الأساسي الرسمي ومجانيته وجودته في آن.
في لبنان، اعتمدت الحكومات اللبنانية، وفق الباحث التربوي سيمون عبد المسيح، الثنائية التعليمية في القطاعين الرسمي والخاص، تنفيذاً لمقتضيات الدستور منذ 1926، واستمراراً لقوة التعليم الخاص المحلي والرسالي المشرعن في اطار نظام الملل العثماني. بعدها رُصد المسار التصاعدي للتعليم الرسمي، لا سيما في العهد الشهابي، نتيجة تزايد الطلب على التعليم المتزامن مع انفجار ديموغرافي والتوسع كماً ونوعاً ومن ثم بلوغ المدرسة الرسمية أوج صعودها في النصف الأول من السبعينيات، قبل أن تقضي الحرب الأهلية على المشروع التربوي، حيث كانت بداية انهيار التعليم الرسمي، فيما لم يغفل عبد المسيح دور المدرسة الخاصة المجانية في اقفال المدرسة الرسمية. وعلى الرغم من موجة الإصلاحات في التسعينيات لا سيما السعي لتوحيد كتابي التاريخ والتربية المدنية ( مع انتقادات ليبرالية تتعلق بحدود تدخل الدولة وخصوصاً في مسألة التنشئة المواطنية)، فإن ما حدث في العقدين الأخيرين من تراجع كمي في عدد تلامذة المدرسة الرسمية (32% من تلامذة لبنان) ونوعي يعطي، بحسب الباحث، انطباعاً بوجود أزمة حقيقية في التعليم الرسمي مرجحة إلى مزيد من التدهور.
مناهج المادة الدراسية التقليدية سبب إضافي يفرض تحسين واقع التعليم، وفق الرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث والإنماء نمر فريحة، «فهناك 15 مادة في الصف، وهذا يتجاوز قدرة التلامذة لمتابعة المواد، إذ عليهم أن ينتقلوا كل 45 دقيقة من مادة لأخرى، ويمكن وصف المناهج الحالية بالمتخلفة لأنها تعود إلى أكثر من مئة سنة في بنيتها ومقاربتها، كما أنها قليلة الفائدة بالنسبة إلى التلامذة، لأنها لا تركز على تعلم الطفل، بل حفظ المعلومات، وكان يمكن أن تعتمد مقاربة أخرى حيث تصبح المواد أقل». وتناول فريحة المشاريع التي قدمها يوم كان رئيساً للمركز وجرى إلغاؤها من الرؤساء اللاحقين للمركز أو العمل بها بطريقة غير سليمة، «ما عكس لامبالاة المسؤولين في تطبيق متطلبات هذا القطاع. ومن هذه المشاريع التربية الشمولية، أي معالجة الضعف القرائي في اللغة العربية مثلاً بدمج المواد التي تدرس باللغة العربية في كتاب واحد، وهناك أيضاً حل المشكلات بواسطة الحوار، والتقييم المستند على الكفايات لمحاكاة المعرفة والتحليل والتفكير النقدي والتوليف والابداع، والتدريب المستمر وإلغاء البريفيه».
على العكس تماماً، شكّك الباحث التربوي فوزي أيوب بجدية الاتهامات للمناهج المعتمدة حالياً، لا سيما أنّه «فوجئ» بأنّ كثيراً من تلامذة المدارس صبوا غضبهم أخيراً في الشارع على المناهج التي يدرسون من خلالها من دون أن يعرفوا قيمتها الحقيقية أو نقاط القوة والضعف فيها. وبينما أقر بأنّ المناهج التي أحدثت منذ 23 عاماً نقلة نوعية من حيث التكامل بين الهدف والمضمون والطريقة ووسائل التقويم أكد أنها تحتاج حتماً إلى مراجعة دورية لكن بروية وتفكير، واصفاً اسقاط نظام التقويم بالكفايات بالهرطقة التربوية.
من معايير التقويم، كما قالت الأستاذة في كلية التربية في الجامعة اللبنانية والباحثة التربوية سكارليت صراف، الكشف عن كيفية حل المسائل وليس حلها فقط، والكشف عن القيم الثقافية للمادة (موقع الأفكار في المادة)، والكشف أبعد مما يتعلمه التلميذ وما يقيسه المعلم في الاختبار أي المهم وليس السهل، وهي مهام تتطلب دمج المعرفة والابتكار، ومهام مركبة مرتبطة بالحياة وتتطلب من التلميذ التفكير وليس استرجاع المعلومات.
وفي مجال إعداد وتدريب المعلمين، أجرت كل من هيام اسحق وسمر الزغبي دراستين في عامي 2009 و2019، عن اتجاهات المعلمين في المدارس الرسمية واسباب عدم مشاركتهم في دورات التدريب المستمر الذي ينظمها المركز التربوي، وقد تحدث المتدربون في السنتين عن دورات غير مفيدة وغير ملائمة لحاجات الأساتذة وغياب أي جديد، ومستوى التدريب وشخصية المدرّب. وبرز في العام 2009 غياب ثقافة التدريب المستمر، فيما ازدادت نسبة الوعي في 2019 تجاه الدورات التدريبية. في العام 2009، لم يكن هناك قرار يلزم الحضور، فيما صدر قرار عن المدير العام للتربية في 2011 يفرض الحضور مرة على الأقل في السنة.
تفاعلت المواقف التي أطلقتها المفتشة العامة التربوية، فاتن جمعة، في مؤتمر «التعليم الأساسي الرسمي» لا سيما لجهة وصفها جهاز الارشاد والتوجيه بـ«جهاز فوضى» وبـ« وغير القانوني»، وأنّ قرارات تكليف المرشدين عديمة الوجود ويمكن الطعن بها في أي وقت أمام مجلس شورى الدولة.
واستناداً إلى ما تبين للمفتشية العامة التربوية من تجاوز للأنظمة المتعلقة باستكمال الأنصبة القانونية وتجاوز في الأعمال الإدارية، وفي تكوين الشعب ومبررات التعاقد، أصدرت هيئة التفتيش المركزي، كما قالت جمعة، قراراً أوصت بموجبه وزارة التربية بعدم اعفاء أي من موظفي التعليم من التدريس لأسباب غير مبررة وعدم الموافقة على أي تعاقد إلا بعد استكمال النصاب القانوني مع اعطاء الأولوية للمتعاقدين القدامى، تحت طائلة اعتبار مدير المدرسة أو الثانوية والموظف المسؤول عن دراسة الحاجة إلى التعاقد ورئيس المنطقة التربوية ومديرية التعليم الثانوي، مسؤولين في أموالهم الخاصة عن أي هدر. بدا لافتاً هنا ما قالته إحدى المشاركات عن وجود نحو 5000 معلم مريض يقومون بأعمال إدارية.
وما تحدث عنه المفتش التربوي جهاد عباس لا يقل أهميةً لجهة معايير اختيار المديرين. وبدت لافتة إشارته لجهة الشكوى التي وردت عن قرار تكليف مديرين سابق لتاريخ إجراء المقابلات الشفهية معهم. وقد أجرى عباس مقارنة بين النصوص القانونية، فوجد استثناءات تدريجية من متابعة دورة الاعداد في كلية التربية. ففي حين اشترط القانون 320 اجتياز دورة الاعداد للجميع قبل تولي مهام الادارة، جاء القانون 73 ليستثني من تابعوا دورات تدريبية خاصة تعنى بأمور ادارية وتربوية نظّمتها وزارة التربية على ان لا تكون مدتها قد تدنت عن شهرين، ثم جاء القانون 151 ليستثني حملة شهادة الكفاءة او الماستر او الدبلوم في الادارة التربوية او ما يعادلها للجامعات الخاصة، والذين تابعوا الدورات التدريبية الخاصة، كما استمر اغفال اصدار نظام الدورات التي ستتم مستقبلا، وذلك بمرسوم يتم اصداره تطبيقا لأحكام القانون 73. وسأل:«هل نتوقع مزيدا من الاستثناءات، ليتأكد لنا، كما يستدل من عناوين القوانين أنّ الأساس فيها هو اعطاء تعويض الادارة وان الاعداد يحل في مرتبة ثانية؟». ودعا إلى إصدار المراسيم التطبيقية للقانون 73، المتعلقة بتقييم الأداء لمديري المدارس والثانويات الرسمية ونظام دورات الاعداد في كلية التربية، إعتماد مجلس الخدمة المدنية كجهة معنية باختبار الأهلية، وتنظيم المباريات لاختيار المديرين. تعديل شروط تعيين مدير المدرسة لجهة حيازة اجازة وما فوق في إحدى الإختصاصات التربوية، وعدم تكليف المديرين قبل اخضاعهم لإعداد مسبق وكافٍ، وضرورة متابعتهم لدورات تدريبية مستمرة.