كتبت ميسم رزق في “الاخبار”:
دهَم المشهد الحكومي أمس تطوّران مُفاجِئان؛ واحدٌ أطل من معراب، وآخر من القصر الجمهوري. كِلاهُما اكتسبَ أبعاداً في ضوء ارتفاع المخاطِر – على أنواعِها – يوماً بعدَ يوم. بالدليل السياسي والميداني، ثبت أن ثمة من يسرّع خطوات لبنان باتجاه المجهول، عبرَ إطاحة سعد الحريري كرئيس مكلّف محتمل عشية الاستشارات النيابية التي كانت مقررة أمس. على بُعد ساعات من موعدها، ارتفعت «خطوط تماس» في المناطق المُحيطة بمجلس النواب، بالتزامن مع تحركات وخطابات مذهبية، قبلَ أن تُفجّر القوات اللبنانية قنبلتها في وجه الحريري، معلنة فجرَ الإثنين «عدم تسمية أحد في الاستشارات النيابية»، ويتعزّز الخوف من أن يُفضي اللعب في الشارع إلى انفجار مواجهة كبيرة يبدو الجميع مُتهيّباً منها، لا سيما بعدما باتَ واضحاً أن الساحة اللبنانية ليسَت متروكة لأهلها، بل مُحمّلة بخلفيات ومشاريع خطيرة ليسَت سوى انعكاس لدقة اللحظة الإقليمية والدولية، خصوصاً أن قرار «القوات» المُباغِت لا يُمكن أن يكون «يتيماً».
هذه التطورات ولّدت أسئلة كثيرة حول الجهة التي أوعزت إلى القوات بتجريد الحريري من الغطاء المسيحي (بعدَ قرار التيار الوطني الحر عدم تسميته ومقاطعة أي حكومة يُؤلفها). ولماذا وافَق الرئيس ميشال عون على تأجيل الاستشارات النيابية ثلاثة أيام، علماً بأن المفاوضات الشاقّة بين رئيس تيار المُستقبل وباقي الأطراف المعنيين لا تزال عالِقة عند الشروط والشروط المُضادة ذاتها، لا بل دخلَ عليها عامِل جديد أكثر تعقيداً تمثّل بـ«تخلّي» سمير جعجع عن «حليفه الإستراتيجي» عشية تكليفه، بعدَ أن ظنّ الحريري أن العودة إلى أحضان القواتيين سهلة، وأن معراب ستستقبله بـ15 صوتاً نيابياً ومباركة، وستمدّ له جسر العبور الى السراي الحكومي من جديد، متناسياً أنه ضحّى بكل الجسور معها كرمى للتسوية الرئاسية والتحالف مع الوزير جبران باسيل.
رُبما وجدت القوات في هذه اللحظة فرصة لـ«الانتقام» لنفسها عن سنوات ثلاث من التخلّي الحريري عنها، لكن الأكيد أن قرارها لم يكُن ذاتياً صرفاً، بل نتيجة حسابات داخلية وإشارات خارجية جعلتها تتراجع عن تعهّد قدمته للوزير السابق غطاس خوري يومَ زارها موفداً من الحريري بالتصويت للأخير. نامَ الحريري على وعد واستفاقَ على رسالة من خارِج الحدود، تقول إنه صارَ بين «فكّي» الشارِع من جهة واللاعبين المحليين والدوليين من جهة أخرى، وكأنهم في سباقٍ لحرق اسمه، بالأسلوب ذاته الذي اعتمده لإزاحة كل اسم محتمل للتكليف من دربه. فإلى جانِب التحركات التي نفذتها مجموعات في الحراك ضد عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، وصلت أمس الى مشارف منزله في وادي أبو جميل، تقاطعت معلومات عن «عدم رغبة أميركية بعودة الحريري إلى رئاسة الحكومة». ويأتي هذا الموقِف مكملاً لموقف المملكة العربية السعودية، التي عبّرت عن هذا الرأي بمقاطعتها الاجتماع الذي خُصّص الأسبوع الماضي في باريس لمساعدة لبنان، في ظل معلومات تتحدث «عن ضغط تمارسه على حلفائها في الداخل لتسمية نواف سلام»، كما موقف الإمارات غير المبالي.
هذه المستجدات تشي بأن البلاد مُقبلة عل متغيرات ملتهبة ومناوشات جديدة لن تكون محدودة بلعبة الأحجام، إذ بحسب بعض المطلعين، يعني «موقف القوات أن الحريري فقد آخر ملجأ مسيحي له، بعد استنفار طائفته لفرض شروطه التفاوضية، وأن الأطراف الخارجيين الذين كانوا يديرونه، انتقلوا الى مرحلة جديدة من خطة محاصرة البلد، بعدَ أن استخدموه في مراحل سابقة لفرض خريطة جديدة من التوازنات السياسية». ولذا «عادَ الرجل إلى التفاوض مع حزب الله والرئيس عون، مطالباً بشكل واضح بإعطائه ما يُمكن أن يستخدمه في وجه الخارج، أي حكومة اختصاصيين، وحينها سيكون مستعداً لمواجهة الخارج»!
فور الإعلان صباح أمس عن إرجاء الاستشارات المؤجَّلة من الأسبوع الماضي، بناءً على تمنّ من الحريري، ظهر أن القوات كانت عنصراً أساسياً في إقفال الباب في وجه عودته. لكن القوات لا تزال مُصرّة على تبرير «دبلوماسي» تعتمده في بياناتها المعلنة، كما في حديث مصادرها، التي تؤكّد أن قرارها مرتبط بنقطتين: الأولى مزاج الشارع والقاعدة القواتية، والثانية عدم ثقتها بالحريري الذي يُمكن بعَد تكليفه (بموافقة نواب القوات) الذهاب الى تأليف حكومة تكنو – سياسية بحجة أن «المصلحة الوطنية تقتضي ذلك»، وبالتالي نكون «قد أكلنا الضرب». القواتيون يؤكّدون أن جوابهم للحريري أتى على الشكل التالي: وهو «في حال استطاع انتزاع حكومة تكنوقراط فإن القوات ستمنح حكومته الثقة، أما غير ذلك فلا مجال للنقاش، لأن تراجع الحريري عن حكومة الاختصاصيين يعني خسارة القوات لورقة الحكومة، وهو مطلب سبقت القوات الجميع اليه». لكن الحريري الذي، وبحسب المعلومات، كان مستاء جداً من موقف القوات، لم يبلع الحجة، وظلّ يتعامل من موقع «المغدور» حتى حينَ كانت الاتصالات بين خوري ومعراب مفتوحة، إذ أشارت مصادر مطلعة أن «خوري نقل الى جعجع أن الحريري لا يزال يعتبر أن القوات باعته لأنها لم توافق على موازنة 2020، واستبقته في تقديم استقالتها من حكومته»!
خير من عبّر عن انزعاج الحريري الكبير كان كتلة «المُستقبل» التي اعتبرت في بيان لها أمس أن «هناك تقاطعاً للمصالح جرت ترجمته في الموقف الذي صدر عن التيار الوطني الحر والقوات، وذلك في ضوء معلومات وتسريبات من عدة مصادر عن أن كتلة التيار الوطني الحر كانت في صدد إيداع أصواتها لدى رئيس الجمهورية ليتصرف بها كما يشاء». البيان شنّ هجوماً على الإثنين، مشيراً إلى أن «هناك جهات اشتغلت طوال شهرين على إنكار ما يحصل بعد ١٧ تشرين، لتعلن بعد ذلك أنها جزء لا يتجزأ من الحراك الشعبي والثورة، وهناك آخرون يرون الفرصة مؤاتية ليعملوا فيها تشي غيفارا كي يبقوا في الشارع لغايات في نفوس أصحابها»، مشدداً على أن تيار المستقبل ينأى بنفسه عن هذه السياسات، وهو في المقابل، وبكل وضوح، لا ينتظر تكليفاً من التيار الوطني ولا من القوات للحريري، ولا يقبل أن يتحول موقع رئاسة الحكومة الى طابة يتقاذفها بعض التيارات والأحزاب». وسبقَ بيانَ الكتلة بيانٌ آخر لمكتب الرئيس الحريري أعلن فيه أنه «في إطار الاتصالات السياسيّة، اتّضح أنّ كتلة التيار الوطني الحر كانت بصدد إيداع أصواتها رئيس الجمهورية ليتصرّف بها كما يشاء. وهذه مناسبة للتنبيه من تكرار الخرق الدستوري الذي سبق أن واجهه رئيس الحكومة رفيق الحريري في عهد رئيس الجمهورية السابق إميل لحود، وللتأكيد أنّ الحريري لا يمكن أن يغطّي مثل هذه المخالفة الدستوريّة الجسيمة أيّاً كانت وجهة استعمالها، في تسمية أي رئيس مكلف».
وتلت هذا البيان بيانات ومواقف مضادة بدأت من بعبدا، حيث ردّ مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية أن «عون حريص على الدستور ولا يحتاج الى دروس من أحد، والتذرع بإيداعه أصواتاً نيابية لتمنّي تأجيل الاستشارات محاولة مكشوفة للتبرير وتجاهل أسباب أخرى»، فيما أشارت اللجنة المركزية للإعلام في التيار الوطني الحر، في بيان، الى أن «تيار المستقبل يتعامى ورئيسه عن الحقائق السياسية والدستورية ويناقض مواقفه بحسب المصالح والظروف ليختلق ويفتي بالدستور خطأً مثلما فعل في صلاحية رئيس الجمهورية بتحديد موعد الاستشارات الملزمة، وكذلك بموضوع حق النواب في تسمية من يريدون أو عدم تسمية أحد أو التشاور مع رئيس الجمهورية أو إيداعه أصواتهم لتدوينها كما يريد في خلال الجلسة معه، في إطار الاستشارات النيابية الملزمة». أما جعجع فأشار إلى أن «تكليف الحريري ثمنه عال جداً»، موضحاً أن «موضوع تسمية الحريري تم طرحه جدياً خلال الـ24 ساعة الأخيرة والرد الشعبي لم يكن مؤاتياً». وكشف أن «الأجواء العربية والدولية غير متحمّسة أو ضد رئيس حكومة معيّن، إلا رئيس حكومة من 8 آذار فالجميع ضده، ولا أحد يقول إن البلد قائم على الحريري أو البلد سيخرب إذا جاء الحريري».