كتبت أنديرا مطر في صحيفة القبس:
يحرص الخبير المالي والاقتصادي د. حسن خليل على تأكيد أن نظام المحاصصة في لبنان هو علة العلل. وهو جذر الأزمة الشاملة التي يشهدها لبنان حاليًا. فالممارسة السياسية على مدى ثلاثة عقود أوصلتنا الى الدولة الفاشلة، والدولة الفاشلة استجلبت المؤامرة على لبنان وليس العكس، ونحن اليوم بأمس الحاجة الى مساعدة دولية لن تأتي إلا بثمن سياسي. برأيه أن لبنان حاليًا في وسط صراع اقليمي ودولي يشن تحت ثلاثة عناوين: ملف حزب الله، ملف اللاجئين السوريين، وملف ترسيم الحدود النفطية والغازية في البحر والبر.. هذه الملفات الثلاثة أصبحت مرتبطة ارتباطًا جذريًا بفرص انقاذ لبنان من المجاعة. الأزمة المالية والاقتصادية، مقاربتها وطرح حلول لمعالجتها. الإجراءات المصرفية وقلق اللبنانيين على ودائعهم ومستقبلهم.. هذه العناوين وسواها تناولها د. خليل في حوار خاص مع القبس.
ما جذور الأزمة الاقتصادية المالية التي يرزح تحتها لبنان حاليًا: طبيعة نظامنا السياسي، أم السياسات المالية المتبعة منذ سنوات، أم تواطؤ بين الطبقتين السياسية والمالية.. علما بأنك تحذر منذ سنوات من بلوغنا هذا الدرك؟ – بدأت ملامح الأزمة منذ 1996 مع نشوء منظومة سياسية تتعامل وفق قناعة ترى أن عملية السلام آتية لا محالة، مهما يكن حجم الدين. الحريرية السياسية (نسبة الى الرئيس الراحل رفيق الحريري) استخدمت الفوائد المرتفعة على الليرة (38 في المئة للمودعين و43 بالمئة للمصارف) بالاتفاق مع البنك المركزي لمراكمة الأرباح لطبقة سياسية كاملة. وتم تثبيت سعر صرف الليرة إزاء الدولار الأميركي مقابل رفع الفوائد إلى هذه الدرجة لأول مرة في تاريخ ماليات الدول. في كل دول العالم، يجب أن يقترن تثبيت سعر الصرف بتثبيت الفائدة. هذه حال الدينار الكويتي والريال السعودي والدرهم الإماراتي. مع هذه السياسة المالية، تمكن الناس من تحقيق أرباح وصلت الى 40 في المئة على الليرة. وهذا ما أدى الى ارتفاع ديون لبنان ارتفاعا غير مسبوق. وترافق ارتفاع الديون مع شراء ذمم الطبقة السياسية صمتا أو تواطؤاً. ولا أبالغ إذا قلت إن السياسيين الذين لم يدخلوا في هذه اللعبة لا يتجاوزون عدد اصابع اليد. فالنظام السياسي الذي ولد بعد اتفاق الطائف أتاح هذه السياسة، وشكل مظلة لولادة نظام المحاصصة الذي بدأ بتحالف قوى ثلاث: سنية سياسية، شيعية سياسية ودرزية سياسية. آنذاك طرحتُ على الرئيس رفيق الحريري اعتماد «الدولرة»، طالما ان كل شيء في لبنان مسعر بالدولار من قطعة الأرض إلى قطعة الثياب. فيما الرواتب والأجور وحدها تُدفع بالليرة. وسبب طرحي هذا هو التخلص من عبء فوائد الليرة. لكن أحداً لم يتجاوب مع الفكرة. أكملنا في نظام المحاصصة حتى اغتيال الرئيس الحريري وعودة العماد ميشال عون من منفاه، في ظل توق الشعب اللبناني الى شخصية وطنية عابرة للطوائف. لكن سوء حظه وضعه بين مقربين ومستشارين اقنعوه ان الزعامة الوطنية غير قابلة للتحقق ما لم تبدأ بزعامة مسيحية. فانتقلنا من زعامات طائفية ثلاث إلى أربع. نظام المحاصصة هو علة العلل. واذا لم يتم القضاء عليه فنحن ذاهبون إلى اسوأ انهيار بين الدول التي انهارت بسبب إفلاس مالي ونقدي. وبسبب هذا الإفلاس، الذي سينجم عنه، بطبيعة الحال، إفلاس اجتماعي معيشي، سيدخل لبنان في أتون لم تعهده دول أخرى، لأنه من الدول القليلة التي لا تملك مقومات النهوض. فلا زراعة ولا صناعة ولا تجارة، وحتى السياحة قضوا عليها بسياساتهم الفاسدة. باختصار: هذه منظومة سياسية شرسة مستمرة في الحكم على قاعدة نحكم لبنان أو نحرقه.
وصّفت أسباب المشكلة، واللبنانيون اليوم يريدون إشارة ما الى انفراج أو حلول لمعالجة هذه الأزمات. – يستفزني جداً السؤال عن الحل. منذ عشرين سنة وأنا اتواصل شهريا مع رؤساء ومرجعيات سياسية ومالية، محذراً من أن هذا النظام المصرفي الريعي، القائم على أرقام وهمية سيؤدي حتماً إلى الانهيار. والنتيجة؟ حوربت في سمعتي ومصالحي وحاولوا مقاضاتي بتهمة تشويه سمعة لبنان. الحلول تبدأ بالدولرة. بربط سعر الفائدة بين الدولار والليرة. يتعاملون مع عجز الموازنة كأنه أمر طبيعي. يسدون العجز من ودائع الناس. وفي حال عدم كفايتها يكبّرون حجم الكتلة النقدية بالليرة. هكذا يتمول نظام المحاصصة: اما استعمال ودائع الناس من خلال سوء الأمانة أو من خلال تكبير الكتلة النقدية وطباعتها بالليرة اللبنانية. والنتيجة عجز الموازنة يتنامى والدين العام خرج عن السيطرة. قدمت طروحات عدة لحل عجز الموازنة، ولكني لست متفائلا بتجاوب الطبقة السياسية المحاطة بخبراء البلاط. يمكننا ببنودٍ أربعة أو خمسة تحقيق وفر في الموازنة: أولا، خفض بنية الفوائد لخفض خدمة الدين، ويمكن تخفيضه من 6 مليارات الى مليارين. ثانيا، الغاء عجز الكهرباء من خلال وقف النظام المافيوي. اضافة الى بنود اخرى مثل وقف التهرب الضريبي والتهريب وتفعيل الجباية. أما الدين العام فبرأيي لا بد من إعادة هيكلته.
كيف تقيّم إجراءات المصارف الأخيرة. وهل ستبقى البلاد تحت رحمة وجود أكثر من سعر صرف لليرة، واحد رسمي وآخر في السوق السوداء؟ – نحن اليوم امام أزمة ودائع غير موجودة الا في قيود دفترية في حسابات المصارف. رأسمال المصارف غير موجود الا في قيود دفترية في البنك المركزي. وبالتالي الدولار الفعلي غير موجود، لأن الدولار الفعلي غير لبناني. اللبناني قيد على الدفتر. الفعلي هو الذي نستخدمه لشراء البضائع من الخارج.
إذاً، القطاع المصرفي منهار؟ – وهل نحتاج إلى دلائل على انهياره اكثر من تقييد السحوبات الى حد 100 دولار أسبوعيا للمودعين؟! المصارف مثل جهاز التلفون الذي توقف عن العمل، فإما نذهب لشراء جهاز آخر، وإما نقوم بريستارت، أي ننفضة ونعيد تأهيله. وهذه النفضة تستوجب إعادة رسملة القطاع المصرفي عن بكرة أبيه من خلال دمج المصارف بأربعة أو خمسة مصارف Megabank، وطرح اكتتاب من عامة الناس داخلياً وعربياً ودولياً، بما يؤمن 20 مليار دولار كرساميل لقطاع مصرفي جديد بالكامل. يضاف اليه ما بين 10 و20 ملياراً محولة من الودائع مقابل أسهم فيه، لنخفف من المطالبة بالودائع، خصوصاً من كبار المساهمين وليس من صغار المودعين. وعندما يصبح لدينا قطاع مصرفي بنحو 30 أو 40 مليار دولار، يمكننا رفده بتسهيلات مصرفية من مصارف خارجية. أما بالنسبة للمصارف القديمة، فيجري تشكيل لجنة من اجل تحصيل ما يمكن تحصيله. من دون هذه الاجراءات لبنان ذاهب الى انهيار اجتماعي شامل: دولة منهارة، قطاع مصرفي منهار، واقتصاد منهار.
كيف تقيم السياسة النقدية لمصرف لبنان؟ – مصرف لبنان كان الاداة الرئيسية للطبقة السياسية، وركناً أساسياً لممارسة نظام المحاصصة. لنتخيل مثلا ان لبنان قام على نظام مالي – هو عمود ضمانة النظام السياسي – على نظرية «انت متشائم ورياض سلامة يقول غير ذلك». حسنا، ليطلعنا رياض سلامة على موجودات المصرف المركزي وموجودات المصارف، لأنه لا يمكننا اجراء تقييم او مقاربة لحل فعلي والخروج من الازمة من دون معرفة حجم السيولة في القطاع المصرفي والبنك المركزي. وهذا سؤال من المحرمات في لبنان. اللبنانيون مصدومون ويسألون لماذا وصلنا الى هذه الحال؟! هل خسرنا ودائعنا؟ في الواقع لم يعد هناك فرق بين من يملك عشرة آلاف دولار ومن يملك 200 مليون دولار في المصارف. وفي هذا السياق، اقول ليست هناك سابقة في تاريخ الشعوب وفي تاريخ الأمم المتحدة ان تعرّض شعب ومجتمع بكامله لعملية اغراء واحتيال وحجز معلومات إدارية ومالية عنه. وهذا ما ادى الى افلاس مجتمع بكامله بسبب فقدانه مقومات الحياة. هذا غير مسبوق. نذكر حالات افلاس مثل صلاح عز الدين في لبنان، والريان في مصر، وانرول ومادوف على مستوى العالم، ولكن ان يتم افلاس دولة ومجتمع، فهذه جريمة تدخل ضمن الجرائم ضد الإنسانية. لأن القتل الجماعي لا يتم فقط من خلال استعمال العنف، بل بالموت البطيء أيضاً.
مجريات الأحداث في لبنان تضعنا أمام سيناريوهين: تشكيل حكومة اياً كان شكلها أو استمرار الوضع الراهن.. فما هي كلفة كل من هذين السيناريوهين على الاقتصاد؟ لا يمكن ان يستمر الوضع على ما هو عليه، فنحن أمام مرحلة صعبة تهدد القطاع المصرفي، حالات الانتحار تزايدت، وبدأت ملامح حالات عنف ضد المصارف، وكل القوى الامنية لن تستطيع ضبط الشارع اذا لاح شبح الجوع. اما بالنسبة الى شكل الحكومة فأقول لو أتينا بوزراء من جنس الملائكة، من دون ضخ كمية سيولة في القطاع المصرفي وجزء منها في القطاع الاقتصادي من أجل عملية نهوض جذرية، هو مضيعة للوقت، ولن يؤدي إلى اي نتيجة، نحن في وقت نحتاج فيه بشدة الى مساعدة دولية، وسبق ان شرحت شروط هذه المساعدة.
متى سيدخل لبنان رسميا في نادي الدول النفطية، وما هو تقديركم لدور هذا القطاع في الاقتصاد اللبناني؟ استخراج النفط يمكن ان يسهم في تعويم الاقتصاد، ولكن اللعبة الدولية معروفة، دول العالم كلها غير قادرة على استخراج نفطها وغازها من دون مساعدة المجتمع الدولي القوي، وهذا الاخير لا يقدم هدايا مجانية، يمكن لاستخراج النفط ان يساعد على العيش بالحد الادنى فيؤجل الانهيار، ولكن برأيي اذا اكملت الطبقة السياسية في نظام المحاصصة ستمعن في نهب أموال اولادنا كما نهبت جيلنا وجيل آبائنا.
هل يمكن ان نرى نظاما مختلفا عن النظام السابق الذي ساد منذ 1990 بعد قيام انتفاضة شعبية؟ ما هو النظام الافضل للبنان؟ – نظامنا ليس سيئا، فهو نظام برلماني جمهوري ديموقراطي، ولكن الفئة الممسكة بالحكم تشرع ما يضمن اعادة انتاج نفسها. هناك 6 زعماء من الصف الاول الى جانب نحو 15 – 20 من السياسيين النافذين يتكافلون ويتضامنون مهما بلغ حجم الاختلاف فيما بينهم، فالاختلاف هو على الحصص وليس على مبدأ المحاصصة. ولن يخرج لبنان من هذا النفق من دون تغيير هذه الطبقة، لكن تغييرها ليس سهلا ولا يمكن ان يتم الا بالدم وبعد الانهيار الشامل.
برأيك هل ستؤسس هذه الانتفاضة الشعبية التي قامت بوجه هذه الطبقة لتغيير ما؟ – هذه الانتفاضة الشعبية تؤسس لشيء ما، على الأقل من رؤيتي للجيل الشاب الذي شارك فيها، رغم كونه غيرمتعمق سياسيا ولا يفقه كثيرا في لعبة الامم، لكنه يرفض كل شي ويعرف ما هي حقوقه المسلوبة، هذا يبنى عليه. ولكن أخشى على هذه الانتفاضة اذا ظلت بلا قيادة جماعية وبلا مطالب موحدة، الامر الذي يهددها بفقدان زخمها، وبالتالي استباحة الطبقة السياسية لها لخمسين سنة مقبلة.
قال الدكتور حسن خليل ان «خريطة الطريق للخروج من الواقع الأليم في لبنان بعد ان تدهورت الموازنة وخرجت عن السيطرة وتدهور الدين وخرج عن السيطرة، ليصبح لبنان كحالة فريدة في العالم حيث بات نظام الودائع في المصارف ورأسمال المصارف عبارة عن قيود دفترية مسجلة عند البنك المركزي». واكد الخبير الاقتصادي ان «كل الخطوات الاصلاحية السابقة حول ضبط الموازنة وانهاء عجز الكهرباء وغيرها، لا تصلح حاليا الا من خلال اعادة الثقة للقطاع المصرفي، من خلال بناء نظام مصرفي جديد وسليم في البلاد يعيد نشاط التسليف للقطاعات الصناعية والزراعية والسياحية ويعيد الديناميكية الى الاقتصاد اللبناني التي من خلالها تعود الدولة الى جباية الضرائب التي باتت شبه متوقفة حاليا بفعل توقف الاقتصاد». وراى خليل انه «من دون اعادة الثقة الى القطاع المصرفي فإنه من المستحيل وقف الانهيار المالي، الذي بدوره سيقود البلاد الى انهيار اجتماعي خطير. ولا يمكن لأحد أن يقدم أي اقتراحات إصلاحية للحل قبل إعادة الثقة الى القطاع المصرفي»، مشيرًا إلى أن «الدول الفاشلة هي التي جلبت المؤامرة على لبنان وليس العكس».