كتب د.عامر مشموشي في “اللواء”:
الرئيس الحريري خرج من عند الرئيس برّي، مقتنعاً بأن قراراً بين الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر بمباركة من رئيس الجمهورية بحرقه سياسياً في حال كلّف بتشكيل الحكومة
قبل ساعات قليلة على إنطلاقة الاستشارات النيابية، أعلن الرئيس سعد الحريري الذي كان الأوفر حظاً لتشكيل الحكومة العتيدة انسحابه من السباق، مشدّداً على ضرورة أن تجري هذه الاستشارات في موعدها المقرّر اليوم الخميس، وعدم تأجيلها تحت أية ذريعة.
هذا القرار الذي اتخذه الرئيس الحريري لم يكن مفاجئاً لمعظم الأوساط السياسية المتابعة لمسار الاتصالات التي أجراها في الثماني والأربعين ساعة الماضية التي أعقبت تأجيل للاستشارات بناء على طلبه، لا سيما مع رئيس مجلس النواب الرئيس نبيه برّي في آخر محاولة منه لثني الثنائي الشيعي من جهة ورئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر عن تمسّكهم بحكومة تكنوسياسية مرفوضة مسبقاً من الانتفاضة.
وتعتقد هذه الأوساط وفقاً للمعطيات المتوافرة عندها ان فشل هذا الاجتماع مع الرئيس برّي لم يكن وحده هو الذي حمل الرئيس الحريري إلى العزوف عن الترشّح لتشكيل الحكومة، وإنما يعود إلى جملة أسباب أخرى لعلّها أبرزها رفض تكتل الجمهورية القوي القاطع بتسميته في الاستشارات الملزمة انسجاماً مع موقف هذا التكتل المتماهي مع مطالب الانتفاضة في تشكيل حكومة من خارج المنظومة السياسية برئيسها وجميع وزرائها، فلم يبقَ أمام الرئيس الحريري سوى العزوف عن الترشّح لتشكيل الحكومة العتيدة، وإعادة الكرة إلى ملعب الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر ليصدما بالحائط المسدود الرافض لأية حكومة تشارك فيها المنظومة الحاكمة تحت عنوان التكنوسياسية.
وهنا تركّز الأوساط نفسها على ما دار في الاجتماع الذي عُقد بين الحريري وبري، وما اقترحه رئيس السلطة الثانية من سيناريوهات يمكنها في حال الأخذ بها أن تعيد الحريري إلى السراي الكبير مدعوماً من الأكثرية النيابية الساحقة التي يمثلها تحالف قوى الثامن من آذار والتيار الوطني الحر، ومن هذه السيناريوهات حكومة من 18 وزيراً تضم 6 سياسيين يمثلون الأحزاب الستة والباقي من اختصاصيين يترك للرئيس الحريري مهمة تسميتهم بالتفاهم أو بالتنسيق مع الانتفاضة. أما السيناريو الثاني فيقضي بتشكيل حكومة من 14 وزيراً تضمُّ أربعة سياسيين يختارهم حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية وأن تطلق أيضا يده في تسمية الوزراء الآخرين ممن يعتبرهم تكنوقراطا. وعلى ذمة الأوساط نفسها طلب الرئيس الحريري استمهاله مُـدّة 24 ساعة للإجابة على هذا العرض مع لفت نظر الرئيس برّي إلى انه يتحفّظ عليه لأنه لا يلبّي مطالب الانتفاضة الشعبية ومن شأنه في حال أخذ به أن يزيد في استفحال الأزمة القائمة، ويزيد من مخاطر وقوع الفتنة في البلاد والتي أطلّت بقرنها من خلال ما جرى في الساحات بين الانتفاضة السلمية وبين مجموعة من المحسوبين على الطائفة الشيعية الكريمة بذريعة ان أحد الأشخاص تهجّم على الطائفة وعلى قياداتها.
وترى هذه الأوساط ان الرئيس الحريري خرج من عند الرئيس برّي، مقتنعاً بأن هناك قراراً متخذاً بين الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر بمباركة من رئيس الجمهورية بحرقه سياسياً في حال كلّف بتشكيل الحكومة من خلال إصرارهم على حكومة التكنوسياسية المرفوضة أصلاً منه، والتي في حال وافق عليها، يضع نفسه في مواجهة مع الشارع المنتفض، وفي مواجهة مع المجتمع الدولي المتوافق على وجوب قيام حكومة إصلاحية تُلبّي مطالب الشعب اللبناني، ورفضه بالتالي حكومة مستنسخة عن الحكومة المستقيلة والتي أدّت سياستها إلى عزل لبنان عن محيطه وعن العالم. وانه بناء على هذه الصناعة اتخذ قراره بالعزف عن الترشّح لتشكيل حكومة جديدة، وإلقاء كرة النار الملتهبة في أحضان رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر والثنائي الشيعي ومن معهم من قوى الثامن من أيّار.
والسؤال الذي تطرحه هذه الأوساط بعد عزوف الحريري عن ترشّحه تشكيل الحكومة هل يستجيب رئيس الجمورية لطلبه كما فعل في المرة السابقة ليعمد ويجري الاستشارات اليوم أم يرجئها إلى موعد الآخر؟! الجواب على هذا السؤال جاء من التيار الوطني الحر بأن رئيس الجمهورية هو صاحب القرار الأوّل والأخير في إجراء الاستشارات وليس رئيس الحكومة المستقيل، وهذا الجواب ينبّئ من دون أدنى شك بأن الطلاق بين التيار البرتقالي والحريري الذي ألمح إليه الوزير جبران باسيل قد وقع فعلاً وان الأيام القادمة مقبلة على تطوّرات دراماتيكية لا يعرف أحد حدودها وتداعياتها خصوصاً وان الساحة فرغت من المرشّحين الذين تقبل بهم الأكثرية النيابية بعد حرق كل الأسماء التي طرحت في خلال الشهرين الماضيين.
وفي قراءة جديدة للمشهد الذي استجدّ بعد عزوف الحريري عن الترشّح لتشكيل الحكومة تميل الأوساط السياسية إلى اتفاق رئيس الجمهورية في مقاربته الملف الحكومي منذ إنطلاقة الانتفاضة قبل شهرين لجهة الاتفاق المسبق على التأليف قبل التكليف، وفي هذا السياق تلفت أوساط عونية إلى ان قرار الحريري بالعزوف يعدّ المؤشر الأقوى إلى ان طبخة الصفقة السياسية والحكومية لم تنضج حتى اللحظة ما يعني ان من غير «الفطنة» أن ينطلق العمل بها قبل أن تنجز، منبّهة إلى ان أي مغامرة من هذا النوع تعني إغراق البلاد في مجهول قد يجرّها إلى ما لا تحمد عقباه. وما بدأ بالشغب الذي سُجّل في الشارع في الأيام الماضية يعطى إشارة خطيرة إليه.