كتب أحمد الزعبي في “اللواء”:
طالما أن الأمور تدور بين خياري «إذا مش الاثنين.. الخميس»، فمن حيث المبدأ ستجري اليوم الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس لتشكيل الحكومة، وهو الموعد الثالث لها.. ولمن لا يذكر فإن لبنان يعيش بلا حكومة منذ 29 تشرين الأول الماضي تاريخ استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري، أي منذ 52 يوماً، في وقت تتقلّب البلاد بين حدّي الفتنة والفوضى أو الإفلاس والانهيار، على وقع السجالات السياسية التي تتذرع بالدستور شماعةً للتعطيل!
في الطريق إلى الاستشارات، من المهم التذكير بأن لبنان يرزح تحت أزمة هائلة وغير مسبوقة طالت الأمن والاستقرار والاقتصاد والنقد والسلع الغذائية والحياتية؛ ويترقب انهياراً اقتصادياً نتيجة انعدام النمو وارتفاع الدين العام، ويواجه ركوداً شبه عام أقفلت بسببه المؤسسات وتمّ تسريح آلاف الموظفين وزادت نسبة البطالة، كل ذلك وسط إجراءات قمعية تتخذها المصارف بحق المودعين، أفراداً وشركات، لناحية حجب السيولة، وتقييد حركة السحوبات وقبض الرواتب والتحويلات، وتسببت إلى غضب الناس العارم، بتهديد الأمن الغذائي بسبب التمنّع عن منح اعتمادات مالية لزوم عمليات الاستيراد.
في الطريق إلى الاستشارات، ثمة أزمة غير مسبوقة، صامتة لكن مفاعيلها صارخة، تضرب علاقات لبنان مع العالم العربي ودول العالم، لها ألف وجه وألف سبب، وأهمها تنكّر غالبية الطبقة السياسية الحاكمة، تحالف الفساد والسلاح، لموجبات علاقة لبنان مع عمقه العربي، وخصوصاً ضرورة مراعاة أمنهم الاستراتجي ومصالحهم الحيوية.
لكن، ولمزيد من الانصاف، ليست كل المؤشرات في تراجع، فلبنان تصدّر مؤشر الفساد على مقياس الفساد العالمي، لا بل احتلّ موقع الصدارة متقدماً على جميع الدول العربية، حاصداً 89 نقطة، بحسب منظمة الشفافية الدولية، وكل ذلك بفضل سياسات الفشل التي أوصلت ما كان يسمى سويسرا الشرق، عن جدارة، ليكون دولة منهوبة ومستباحة.
في الطريق إلى الاستشارات، سجالاتٌ ملأت فضاء الحديث السياسي حول «الدستور» والحرص عليه وتبادل الاتهامات بخرقه، وكأننا نعيش في دولة مستقرة وديموقراطية وحكم رشيد تلتزم فيها الأحزاب والمكونات نصوص الدستور بشفافية واحترام، ولسنا في بلد مفلس وجائع ويدار على وقع الشائعات والنكايات حيث الدستور مجرد وجهة نظر، ويتم تسخيره لخدمة المصالح والغايات الخاصة والفئوية والحزبية.
والواقع أن استحضار الدستور في الخصومات السياسية لا يستقيم، ولا يغطي تقاعس السلطة عن تحمل مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، إذ يمكن تخيل أسباب عديدة، عديدة جداً، للمأزق والمناوشات والخصومات، إلا أنه من الصعب القول أن وراءها تباين في فهم الدستور ومدى الالتزام به. ومثلُ ذلك استحضار مصطلح «الميثاقية» الملتبس والمطّاط عند كل شاردة وواردة بهدف التعطيل، إنه ذات القاموس المفخّخ الذي أنتج سابقاً مصطلحات عبثية كالحكومة التوافقية وحكومة الوحدة الوطنية ستاراً للعرقلة.
يغيب عن المتساجلين أن الدستور بمن يطبقه لا بمن يختبئ خلفه، وأنه يرفع المقامات وعلى أصحابها أن يراعو ذلك بوصفهم حكماء وأوصياء على الجمهورية والقوانين والمصالح العامة، وأن العبث به عند كل مفصل، وأمام كل منعطف يجعل منه سبباً لانهيار الدول لا انتظام عملها.
يؤثر عن الفقيه الدستوري النائب السابق حسن الرفاعي، أشهر من عارض على الدوام خرق الدستور أو استسهال تجاوزه، أنه في مقام إنكاره الاستخدام المبالغ به للدستور في الصراعات السياسية، يستشهد بقول العلامة الفرنسي الشهير ليون دوغي: «ليس للقانون الدستوري أي ضابط سوى حسن نية وأمانة الرجال الذين يطبقونه». وهنا يظهر الفرق بين السياسي ورجل الدولة. وبهذا المعنى أيضاً يمكن القول إن المتلهين باللعب بالدستور شركاء في الانهيار الحاصل، وتدمير البلد، وعرقلة الحلول.
في المباشر، قد تحصل الاستشارات النيابية اليوم وقد لا تحصل، فالتأجيلُ يجرّ التأجيل، ورفع الميثاقية قد يستوجب رفعاً مقابلاً لها لتدخل عملية التأليف نفقاً مجهولاً، ويُعاد طرح تفعيل حكومة تصريف الأعمال حتى إشعار آخر. لكن إن لم يتم إخراج الحكومة من عنق التعطيل خصوصاً بعد إعلان الرئيس الحريري الانسحاب من السباق (والحال أن تداعيات مالية ضاغطة ستترتب على قراره) فثمة خوف حقيقي من أن كسر الجمود سيحتاج إلى خلط أوراق عنيف، وربما دماء، في اللعبة الداخلية، خصوصاً في ظل الاحتقان الكبير الحاصل.
وفي حال سارت الأمور على نحو يسهل ولادة الحكومة العتيدة فستكون أمام 3 تحديات – أولويات، ولا يمكن القول إن الأمور استقامت أو وضعت على سكة الاستقامة ما لم تتصدَّ لها بشكل جدي وسريع وفاعل، وهي:
أولاً: التفرّغ بداية لمعالجة الأزمة الاقتصادية والنقدية والحياتية، ولو من قبيل وقف النزف الحاصل أولاً، دفعاً لشبح الإفلاس والانهيار والجوع، بما يشمل ضرورة ترميم علاقات لبنان بأشقائه وأصدقائه وحثّهم على المساعدة بهذا الأمر، حتى ولو كانت كل التقديرات تَشي بعتبٍ عربي عميق تحتاج معالجته أموراً جذرية.
ثانياً: الاهتمام بالملف الإصلاحي بشقيه: مكافحة الفساد في إدارات ومؤسسات الدولة وآليات إجراء العقود والصفقات والتلزيمات من جهة، ومن جهة ثانية إطلاق مسار قضائي لاستعادة الأموال المنهوبة، وبما يشمل أيضاً تطبيق البنود المتفق على كونها إصلاحية في الخطة التي كانت أقرتها حكومة الحريري.
ثالثاً: العمل على تنفيذ مطالب الانتفاضة المتعلقة باجراء انتخابات نيابية مبكرة مسبوقة بإقرار قانون انتخاب عصري وعادل يؤمن مشاركة شعبية واسعة تمهيداً لإعادة بناء مؤسسات تتمتع بالشرعية الشعبية والدستورية.
إن حكومة مصغرة برئاسة شخصية تحظى بالثقة والاحترام، تعمل على تنفيذ هذه الأولويات كخطوة أولى في طريق الإصلاح المنشود، قادرة على إقناع الشعب، من الذين نزلوا إلى الساحات ومن المترددين، بأن الزمن تغير، وأن العبور إلى دولة عصرية مدنية، ومواطنة حقيقية.. ممكن، وأن صرخات الثائرات والثائرين في بيروت والمناطق.. وصلت، وأن كل أعمال البلطجة والفوضى ومحاولات خنق الثورة.. فشلت، وأن إرادة التغيير.. انتصرت، وكل ذلك رهن باستشعار القيادات السياسية الراهنة هول الأزمة وحجم الضغوطات التي يواجهها القسم الأكبر من اللبنانيين، وتبقى الخطوة الأولى في الاستشارات التي طال انتظارها ويقال أنها ستنجز اليوم، فهل يتم التكليف هذا الخميس، أم سيتأجل إلى الاثنين؟ إن غداً لناظره قريب.