كتبت كلير شكر في “نداء الوطن”:
لم يعتقد الرئيس سعد الحريري أنّ المطاف سينتهي به في حقبة ما بعد انتفاضة 17 تشرين الأول، رئيساً مكلّفاً لحكومة منزوعة الرعاية المسيحية، وهو الذي سبق له أن أمسك “مجد” المسيحيين من طرفيْه: من طرف “القوات” منذ نشوء تفاهم 14 آذار، ومن طرف “التيار الوطني الحر” منذ صياغة التسوية الرئاسية التي أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. وها هو يفتش “بالسراج والفتيلة” عن حليف مسيحي يقيه شرّ اتهامه ضرب الميثاقية، ولم يجد له سنداً سوى رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية.
تعقّدت الأزمة الحكومية أكثر بعد دخولها نفق الشروط والشروط المضادة، فيما صارت بعض القوى السياسية، وتحديداً “القوات” أسيرة تصعيد الحراك الشعبي ومطالبه. أما الحريري فيبدو مطوقاً وفي أكثر مراحله تأزيماً. فيما الثنائي الشيعي يقف بين منزلتين: احترام الميثاقية الطائفية التي تعطي الحريري أولوية على ما عداه، ورفض شريكه المسيحي العودة مجدداً إلى طاولة رئيس “تيار المستقبل”.
أما “التيار الوطني الحر” فتسود القناعة قيادته، بأنّها نجحت في قلب الطاولة بوجه الجميع بعدما تحمّلت زوراً كل ارتكابات الطبقة السياسية على مدى ثلاثة عقود، وقد تمّت مساواتها من جانب المحتجين في الشارع مع بقية شركائها الحكوميين… وها هي اليوم تستعيد زمام المبادرة.
للمرة الثانية على التوالي، يعلن الحريري إنّه يعتذر عن تكليف لم يحصل. ولكنها للمرة الأولى التي لا يتمنى فيها على رئيس الجمهورية تأجيل موعد الاستشارات النيابية لمزيد من التشاور. أعاد الكرة إلى ملعب الرئاسة الأولى، معلناً بصريح العبارة إنّه سيتوجه إلى الاستشارات على أساس أنه غير مرشح مع اصراره على عدم تأجيلها بأي ذريعة كانت… ما استدعى الردّ والتصويب من جانب فريق الرئاسة الأولى و”التيار”.
يضحك العونيون في سرّهم حين يتلى “بيان العزوف” على مسامعهم. يقولونها من دون أن ينطقوا: لقد فعلناها. يزداد وضع الحريري تعقيداً. هو الذي لم يتخل يوماً عن رغبته في تأليف حكومة من جديد على الرغم من كل الممانعة التي أبداها. يعتقدون أنّ مصير الحريري الحكومي عاد إلى ملعبهم، وها هم يتحكمون به عن بُعد.
يصرّ أحد وزراء “التيار الوطني الحر” على حسم معادلة فريقه السياسي: لا للعودة إلى حكومة يترأسها الحريري، مهما قدّم الرجل من اغراءات ووعود وهدايا تسمح لهم بالعودة “منتصرين” إلى حكومة ما بعد الانتفاضة. مسألة غير قابلة للنقاش أو التفاوض، على الرغم من المحاولات التي قادها رئيس مجلس النواب نبيه بري طوال الأربع وعشرين ساعة الماضية لثني الوزير باسيل عن قراره.
ما لا يصدقه كثيرون، هو أنّ “التيار” لا يناور في قرار التمرّد على الصفّ الحكومي. هو مقتنع أنّ أي تجربة جديدة بقيادة الحريري لن تطعم خبزاً، لا بل ستزيد من أزمات “التيار” مع الرأي العام.
ولهذا كان الرفض من جانب القيادة العونية إزاء محاولة ترميم الجسور خلال الساعات الأخيرة، نهائياً وغير قابل للمعالجة، على الرغم مما قيل عن عروض سخية وضعت على طاولة “التيار” في سبيل اقناعه بالعودة الى بيت الطاعة الحكومي. لكن باسيل، كما يؤكد الوزير العوني تصدى لكل هذه الطروحات تحت عنوان: اعطوني رئيس حكومة غير الحريري، اعطيكم دعمي. أما غير ذلك، فلا يبدو أنّه قابل للنقاش بالنسبة إلى العونيين.
يشير الوزير نفسه إلى أنّ خشية الحريري من مواجهة استحقاق الاستشارات لا يتصل فقط بشكواه من وهن الغطاء المسيحي، وإنما من مفاجأة غير محسوبة الحساب قد تواجهه. يقول إنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال سيصاب بصدمة لم يتوقعها. ولهذا قرر الانسحاب من السباق قبل دخوله.
ويعتبر أنّ “الوطني الحر” لا يزال على قناعته بأنّ خلاص البلد، كما استعادة “التيار” لمكانته أمام اللبنانيين وأمام جمهوره، لن يتمّ إلا في حال تأليف حكومة نشيطة، متجانسة قادرة على العمل بجدية. وهذه مواصفات لا يمكن للحريري تأمينها. المطلوب بنظرهم، “الثأر” للسنوات الثلاث التي مضت من عمر عهد ميشال عون من دون القدرة على تحقيق انجازات كبيرة، من خلال العمل في السنوات الثلاث المتبقية لتحقيق انجازات ست سنوات. ولهذا لا بدّ من مقاربة جديدة مختلفة كلياً، تبدأ بهوية رئيس الحكومة ولا تنتهي بسلوك مكوناتها.
يرى أنّ هذا الطرح لا يتناقض أبداً مع ما يطرحه حليفه “حزب الله” الذي لا يزال يعتبر أنّ كرة التسمية هي في ملعب الحريري. يقول: قد نختلف في الطريقة، لأن لكل منا أسلوبه، ولكننا لا نختلف على الجوهر. حتى “حزب الله” يريد تحقيق هذا الهدف، لكنه يفاوض على السيناريو الثالث الذي طرحه الأمين العام السيد حسن نصر الله (ترئيس الحريري بعد التخلي عن بعض شروطه) للوصول إلى السيناريو الرابع (بديل عن الحريري). بينما “التيار” يصوب على الخيار الرابع مباشرة.
جلّ ما يفكر به “التيار الوطني الحر” بعد تاريخ 17 تشرين الأول، هو كيفية احداث صدمة ايجابية تعيد له ثقته بنفسه وثقة الجمهور به. والبداية بنظرهم من خلال حكومة منتجة قادرة على مواكبتهم بخطتهم الاقتصادية – المالية التي تمّ وضعها حديثاً كمحاولة إنقاذية أخيرة. وفي اعتقادهم أنّ الضغط الذي بدأوا بممارسته على الحريري سيؤتي بثماره. وما بيان الأمس سوى دليل قاطع على أنّ عودة الحريري إلى السراي باتت شبه مستحيلة.