أحبِط خيار واشنطن وحلفائها بفرض رئيس جديد للحكومة ينفّذ انقلاباً على نتائج الانتخابات النيابية. وبمباركة الرئيس سعد الحريري، صار الوزير السابق حسان دياب رئيساً مكلفاً تأليف الحكومة. تحالف 8 آذار – التيار الوطني الحر اختار دياب الذي لم يضع الحريري أي فيتو عليه. على العكس من ذلك، فضّل رئيس تيار المستقبل عدم تسمية منافس لدياب، لكي لا يواجه شركاءه في الحكومة المستقيلة، ولا يحرجهم، خصوصاً الذين وقفوا إلى جانبه في ظل القرار الأميركي – السعودي بإبعاده عن رئاسة الحكومة. وأمام كتلة المستقبل، شدّد الحريري على نوابه بضرورة منح دياب فرصة لأن البلاد تمر بأزمة. لكنه، في الوقت عينه، اكّد لمقربين منه ان لن يشارك في الحكومة المقبلة، ولو كانت حكومة اختصاصيين. هذا الموقف يعني ان تأليف الحكومة لن يكون سهلاً، بل ربما لن تبصر النور، وأن رئيس الحكومة المستقيل ربما يتعامل مع تكليف دياب كـ«وقت مستقطع» قبل إعادة تسميته. فعدم مشاركة الحريري يعني ان الحكومة ستكون «من لون واحد»، وهو ما يرفضه حزب الله وحركة أمل، إضافة إلى الرئيس المكلف. ففريق 8 آذار يصر على التفاهم مع الحريري، لأن خلاف ذلك يعني مواجهة تعيد البلاد إلى ما قبل حكومة الرئيس تمام سلام، وتمنح الأميركيين فرصة بث المزيد من الفوضى في البلاد التي تشهد ازمة اقتصادية غير مسبوقة، وانتفاضة شعبية لا يبدو أنها ستهدأ قريباً. حكومة جديدة، بصرف النظر عن اسم رئيسها، هي فرصة لتخفيف سرعة الانهيار، وفي الوقت عينه، وصفة لزيادتها. فأي السبيلين سيُدفع إليه دياب؟
صار حسان دياب، بعد يوم واحد من تداول اسمه، رئيساً مكلفاً تأليف الحكومة. قبل مساء أول من أمس، لم يكن أحد قد سمع باسمه في أي من المداولات التي كانت تجرى. لكن مساء أمس، التقى رئيس الجمهورية الذي أبلغه نتيجة الاستشارات النيابية الملزمة، التي أسفرت عن تسميته رئيساً مكلفاً تأليف الحكومة من قبل 69 نائباً، مقابل 13 نائباً سمّوا نواف سلام ونائب سمى حليمة قعقور، فيما لم يسمّ 42 نائباً أحداً.
انطوت مرحلة التكليف، بعد 50 يوماً من التجاذبات، التي كان سعد الحريري بطلها، منذ أن أطلق عبارته الشهيرة «ليس أنا بل أحد غيري»، مروراً بحرقه كل اسم غيره، وصولاً إلى عودته إلى ترشيح نفسه من بوابة دار الفتوى، قبل أن يضطر إلى الانسحاب نتيجة «خيانة» تعرّض لها من قبل «القوات».
يوم الاثنين الماضي، كان واضحاً أن الحريري سيترأس الحكومة، لكن بريد القوات حرمه من العودة. الرسالة الأميركية الواضحة تلقفها الحريري. انسحب من السباق من دون أن يذهب للمواجهة مع حزب الله. هو يعرف أن تسميته نواف سلام، بالرغم من أنه كان أول من طرح اسمه بعيد استقالته، هو مشروع مواجهة مع حزب الله. أو على الأقل، هو إحراج لحزب الله وحركة أمل اللذين كانا يطالبان الحريري بتسمية مرشح ليقبلا به رئيساً للحكومة. ولذلك ذهب رئيس «المستقبل» إلى أنصاف الحلول، هو الذي بالرغم من اختلافه مع الحزب، فضّل ربط النزاع معه.
عدم تسمية الحريري لأحد ليست سوى موافقة على تسمية دياب. وهو بذلك لم يضع موقعه بوصفه الأكثر تمثيلاً في الطائفة السنية في مواجهة مع الرئيس المكلّف، بل العكس، تفيد المعلومات بأن الحريري لمّح أول من أمس إلى أنه ربما سيسمّي دياب. وفي الجلسة التي عقدها لكتلة «المستقبل» أمس، قال الحريري للحاضرين: «سنعطي الحكومة الجديدة فرصة. وفي أول 100 يوم، لن ننتقدها. البلد بحاجة إلى إنقاذ، ولا نريد أن نظهر كمعطّلين». وهو وإن لم يسمّ دياب، إلا أنه لم يسمّ غيره، فأعطاه بذلك غطاءً طائفياً، علماً بأن هذا الغطاء قد ينحسر، تبعاً لما سيظهر من زيارة نائب وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية، ديفيد هيل، اليوم.
في المقابل، ذهب محور التيار الوطني الحر ــــ حزب الله ــــ أمل إلى ملاقاة الحريري في وسط الطريق، من خلال عدم تسمية شخصية مستفزة أو شخصية طامحة لزعامة سنية، علماً بأن هذا المحور كان أمام خيارين، بعد انسحاب الحريري، إما عدم تسمية أحد في الاستشارات، ما يؤدي إلى حصول سلام على الأغلبية، وإما تسمية شخصية تقطع الطريق على سلام، «مرشح الأميركيين». ولمّا كان حزب الله رافضاً منذ البداية لحكومة اللون الواحد، وبالتالي رافضاً لتسمية شخصية تشكّل تحدياً للشارع السني وللحريري، كان الخيار بدعم شخصية مستقلة وتكنوقراط، وهكذا كان… بمباركة حريرية، علماً بأن دياب أوضح لــ«أو تي في» أنه لم يلتق أحداً قبل التكليف سوى رئيس الجمهورية.
ما حصل استفز النائب السابق وليد جنبلاط، الذي اعتبر أن «اختيار قوى 8 آذار مرشحها ليس بغريب، فهم على الأقل لديهم مشروع. لكن أن تخذل قوى المستقبل المتسترة بالتكنوقراطية وكأنهم خريجو Silicon Valley أن تخذل نواف سلام خوفاً من التغيير، فهذا يدلّ على عقمها وإفلاسها. كنا أقلية وسنبقى وكم الأمر أريح». وفيما لا يزال غير واضح سبب عدم تلطي جنبلاط خلف موقف الحريري، كما فعل يوم عاد عن قرار الاستقالة من الحكومة، وإصراره على خوض المواجهة بالرغم من أن انعدام حظوظ سلام، أخذت القوات هذا الدور. واكتفت بعدم تسمية أحد، بالرغم من أن سلام كان خيارها. مصادر مطلعة على موقف جنبلاط ذكّرت بالعلاقة الشخصية التي تربطه بسلام، فضلاً عن أن الحريري وعده بمنح أصوات كتلته لسلام. أما القوات، فتقول المصادر إنها كانت تعلم أن خيار سلام سقط، وبالتالي، لم تُرد معراب تثبيت تهمة «الخيار الأميركي» عليها وعلى سلام.
بالنتيجة، انتهت مرحلة التكليف التي استمرت 50 يوماً، وبدأت مرحلة التأليف، التي تواجهها مجموعة كبيرة من المطبات، أبرزها الضغوط الخارجية، التي يبدو أن مؤشراتها بدأت تظهر سريعاً. فالإعلام الأميركي كما الأوروبي لم يتأخر في اعتبار دياب مرشح حزب الله الذي كُلّف تأليف الحكومة. في المقابل، كرر دياب الإشارة إلى استقلاليته وتوجهه لتأليف حكومة من الاختصاصيين. كذلك أعلن أنه لن يعتذر، وسيؤلّف الحكومة سريعاً بالمقارنة مع الوقت الذي أخذته الحكومات السابقة.
لكن ما لم يكن واضحاً أمس هو تحرك مناصري المستقبل لقطع الطرقات، ولا سيما طريق الجنوب، اعتراضاً على تكليف دياب، بالرغم من أن الحريري نفسه لم يعارض تكليفه، وبالرغم من أن حزب الله وأمل تمسّكا برئيس المستقبل حتى اللحظات الأخيرة، فيما القوات، حليفته، هي التي تخلّت عنه. وأكدت مصادر الحريري أنه بذل جهوداً كبيرة أمس لمنع الاستمرار بقطع الطرقات، بعدما أوعز إلى الجيش وقوى الأمن الداخلي بفضّ الاعتصام الذي نظّمه أنصار «المستقبل» قرب منزل دياب في تلة الخياط. كذلك فعل حزب الله، إذ اتخذ إجراءات مشددة في الضاحية، إلى جانب إجراءات أمنية اتخذها الجيش، لتفادي حصول ردات فعل على مؤيدي المستقبل الذين وجّه بعضهم إساءات إلى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والرئيس نبيه بري.
وقال دياب بعد انتهاء الاستشارات إنه سيعمل بالاتفاق مع رئيس الجمهورية، واستناداً إلى الدستور، لتأليف حكومة «تكون بمستوى تطلعات اللبنانيين. تُلامس هواجسهم، وتحقّق مطالبهم، وتطمئنهم إلى مستقبلهم، وتنقل البلد من حالة عدم التوازن التي يمر بها، إلى مرحلة الاستقرار، عبر خطة إصلاحية واقعية لا تبقى حبراً على ورق، وإنما تأخذ طريقها إلى التنفيذ سريعاً».
وفيما أوضح أنه توافق مع الرئيس نبيه بري على عقد الاستشارات النيابية يوم غد (حددت دوائر المجلس توقيت الاستشارات لكل الكتل)، أعلن أنه سيتوسع في المشاورات لتشمل القوى والأحزاب السياسية، وأيضاً الحراك الشعبي. وتابع: «نحن نواجه أزمة وطنية لا تسمح بترف المعارك السياسية والشخصية، وإنما تحتاج إلى وحدة وطنية تحصّن البلد وتعطي دفعاً لعملية الإنقاذ».
وتوجه الى الناس المنتفضين منذ 17 تشرين الأول بالقول: «استمعت إلى أصواتكم التي تعبّر عن وجع مزمن، وغضب من الحالة التي وصلنا إليها، وخصوصاً من استفحال الفساد. وكنت أشعر بأن انتفاضتكم تمثّلني كما تمثّل كل الذين يرغبون بقيام دولة حقيقية في لبنان، دولة العدالة والقانون الذي يطبق على الجميع. هذه الأصوات يجب أن تبقى جرس إنذار بأن اللبنانيين لن يسمحوا بعد اليوم بالعودة إلى ما قبل 17 تشرين الأول».