كتب نقولا ناصيف في “الاخبار”:
بقليل من الحظ والكثير من التحسب، يتمكن الرئيس المكلف حسان دياب من تأليف حكومة اخفق الرئيس سعد الحريري في الوصول اليها، مع انه هو صاحب المواصفات. بسبب سوء ادارة اللعبة والمناورة الخاطئة قدمها هدية الى خلفه
تدرّج الرئيس المكلف حسان دياب، منذ تكليفه في 19 كانون الاول، في رسم مواصفات الحكومة التي يريد تأليفها. قال اولاً، بعيد التكليف في كلمته في قصر بعبدا، انه يروم تأليف حكومة في اسرع وقت من غير ان يحدد مواصفاتها بدقة، موكداً على موقعه المستقل، وان الافرقاء جميعاً «سيكونون فيها» مع تشديده على الاختصاصية. في اليوم التالي 20 كانون الاول، جال على رؤساء الحكومات السابقين بدءاً بسلفه الرئيس سعد الحريري، فقال للمرة الاولى انه مع حكومة اختصاصيين مستقلين. بعد الاستشارات النيابية في اليوم الثالث لتكليفه، السبت 21 كانون الاول، جزم مجدداً بحكومة اختصاصيين مستقلين. مذذاك اصبح الجدل الدائر من حول التأليف مواصفات الحكومة الجديدة.
حتى الوصول الى تكليف دياب، لم يكن امام الحريري قبل اعتذاره الاول في 26 تشرين الثاني، ثم اعتذاره الثاني في 18 كانون الاول، وما بينهما في سابقة غير مألوفة للمادة 53 من الدستور ان يطلب رئيس حكومة تصريف اعمال غير ذي صفة مرتبطة بهذه المادة تأجيل الاستشارات النيابية الملزمة، سوى عرض واحد من رئيس الجمهورية ميشال عون وثنائي حزب الله وحركة أمل الذي كان يتمسك بترؤسه الحكومة: تأليف حكومة تكنو – سياسية. في المقابل قدّم الحريري الى الرئيس والثنائي عرضاً مغايراً مناقضاً، هو الاصرار على حكومة اختصاصيين محض، رابطاً موافقته على ترؤس الحكومة بالتسليم له بهذا الشرط.
عندما كان الحريري لا يزال في ملعب فرصة التكليف، دارت دورة اسماء محتملة لخلافته كالوزيرين السابقين محمد الصفدي وبهيج طبارة وسمير الخطيب، والثلاثة سلّموا على مضض بحكومة تكنو ـ سياسية، يُكتفى فيها بستة وزراء سياسيين من الباب الثاني او الثالث بلا حقائب. وافق عون وحزب الله وحركة أمل تباعاً على كل من المرشحين الثلاثة رئيساً محتملاً تبعاً لمواصفاتهما تلك للحكومة، الا ان الحريري لم يوفر لهم الغطاء السنّي الكافي، فأخفقوا كي تعود اللعبة الى اولها: هو او لا احد. لا الرجل غيّر رأيه هو المصرّ على البقاء في السرايا، ولا رئيس الجمهورية وحزب الله وحركة امل تزحزحا عن شرط الحكومة التكنو ـ سياسية، مع تمسّك هذا الفريق برفضه تأليف حكومة اللون الواحد اياً تكن الدوافع.
بيد ان القيود تلك تهاوت فجأة امام الرئيس المكلف. فاذا هو امام الخيارات التي استعصت على سلفه، بقليل من الحظ والكثير من الاخطاء المرتكبة وبعض المصادفات التاريخية:
اولاها، مع ان ظروف تكليف دياب مشابهة لتلك التي رافقت في كانون الثاني 2011 تكليف الرئيس نجيب ميقاتي، الا ان الحظ مَالَ الى الرئيس المكلف الحالي اكثر من سلفه. افتقد ميقاتي حينذاك دعم السعودية له وكانت لما تزل متعاطفة مع الحريري، وقوبل برسائل تنبيه من الولايات المتحدة عندما راحت تتوقع حكومة حزب الله لمجرد هزيمة الحريري في الاستشارات النيابية الملزمة، كي تقول له ايضاً انها حكومة اللون الواحد. وهي كانت كذلك الى حد بعيد في تقاسم حصصها. لكن قاسماً مشتركاً مزدوجاً واجهه ميقاتي ودياب الذي احالته المصادفة وزيراً في حكومة 2011، كي يتدرّب حينذاك على سبل المواجهة والعناد: احدهما إشعال الحريري الشارع الطرابلسي مذهبياً واطلاق حملات التحريض على ميقاتي وافلات الشغب في المدينة، والآخر تخلي حليف رئيسي له هو وليد جنبلاط عن التصويت له في الاستشارات النيابية الملزمة، مفضّلاً عليه ميقاتي.
ما شهدته الايام الاولى لتكليف دياب ولا يزال، مطابق لما حدث عام 2011: إشعال الشارع البيروتي مذهبياً وتمدّده المفتعل الى البقاع الاوسط، وتخلي سمير جعجع عن تسمية الحريري في الاستشارات النيابية الملزمة. كلا الحليفين اللذين غالباً ما قال عنهما رئيس حكومة تصريف الاعمال انهما الاكثر اخلاصاً له ووقوفاً الى جانبه، وهما الاكثر حاجة اليه ولم يبخل عليهما، خذلاه تماماً. بدأ هذا الخذلان منذ ما قبل استقالته في 29 تشرين الاول، عندما راحا يناديان باستقالة وزرائهما. ناور جنبلاط بهذا المطلب فحسب، الا ان جعجع سارع اليه فاستقال وزراؤه من غير ان يلقى صدى لدى الحريري. مع ان المعلوم ان الحريري اعتذر عن عدم ترؤس الحكومة، واقع الامر ان موقف القوات اللبنانية بحجب اصوات نوابها الـ15 هو الذي اخرجه من السرايا.
ثانيها، لا ريب في ان جنبلاط وجعجع، ناهيك بالحريري، قدّما لدياب الفرصة الاستثنائية غير المتوقعة. في اليوم الاول لتكليفه، قال دياب انه في صدد حكومة تجمع الافرقاء جميعاً، عاكساً الالتزام الذي قطعه سلفاً منذ ما قبل التكليف لرئيس الجمهورية وحركة أمل وحزب الله. الالتزام نفسه الذي طلباه من الحريري كما من الاسماء الثلاثة التي رُشحت قبلاً. ما بين اليوم الاول والثالث انقلبت المعايير تماماً: بعدما كان جعجع اول القائلين انه لن يشارك في حكومة دياب، انضم اليه الحريري وجنبلاط على التوالي بعد التكليف، قبل الوصول الى الاستشارات النيابية للرئيس المكلف.
بإحجام الكتل الثلاث تلك عن الانضمام الى الحكومة الجديدة، لبست للفور اللون الوحد، ما عنى انها ستكون حكومة ثلاثي التيار الوطني الحر وحزب الله وحركة امل وحلفائهم. اعادت الى الاذهان مجدداً صورة حكومة ميقاتي عام 2011 مع ان هذه لم تكن كذلك، اذ اتخذ جنبلاط – بعدما تسبّب في اسقاط الحريري – موقع الوسط فيها بغية احداث توازن كان قليل الفاعلية والجدوى حينذاك. كانت القوات اللبنانية وحزب الكتائب وتيار المستقبل خارجها، من غير ان يسعهم الاضطلاع بأي مغزى لدور المعارضة في ظل غالبية نيابية موالية لقوى 8 آذار في قلبها ضمناً جنبلاط.
سواء اصابت الكتل الثلاث المنسحبة او اخطأت، فإن موقفها المقاطع احرج حزب الله مقدار ما افاد الرئيس المكلف. بغية تجنّب ما الحّ على رفضه على الدوام الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وهو حكومة اللون الواحد، اضحت المعايير الجديدة لحكومة دياب قصرها على وزراء تكنوقراط مستقلين. وهو مبرّر تدرّج هذا الموقف في الايام الثلاثة الاولى للتكليف. شكّل ذلك مصدر القوة الذي يُلمس بوضوح في تصريحات دياب بالاصرار على حكومة اختصاصيين مستقلين، مختصرة، من غير ان يأتي على ذكر تمثيل سياسي فيها، ومن دون ان يصدر اي رد فعل معاكس لرئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر وثنائي حزب الله وحركة أمل يدحض هذا الخيار، غير المحسوب في الاصل منذ استقالة الحريري.
نجاح الرئيس المكلف في الوصول الى هذا الهدف، يقوّض على نحو رئيسي القاعدة الصلبة التي يتمسك بها التيار الوطني الحر وحركة أمل وحزب الله، وهي عدم مسّ التوازن السياسي القائم في البلاد منذ اتفاق الدوحة، ولا نتائج انتخابات 2018. كلاهما لا محل لهما في حكومة اختصاصيين مستقلين. مع ان الرجل لم يخض، حتى الآن على الاقل، في ما كان اثاره من قبل طبارة، وهو اعتماد المداورة في الحقائب السيادية.