كتب عمار نعمة في “اللواء”:
هي ليست الأزمة الأولى للحريرية السياسية اليوم، سواء ما عايشه الأب المؤسس لـ«تيار المستقبل» الرئيس الراحل رفيق الحريري، أو ما يعانيه حاليا الإبن والخليفة المُطاح به الرئيس سعد الحريري.
لكنها الأزمة الأكبر والأخطر على التيار الذي يعاني رئيسه مشاكل بنيوية في تنظيمه لا يبدو قادرا معها على مواجهة تحديات كبرى برزت لتحاصر «الشيخ سعد» من كل النواحي، إقليميا ومحليا وداخليا، وجاء بعضها من الحلفاء حيث ظلم ذوي القربى.. أشد ألماً.
لا يحسد سعد الحريري على أزمته اليوم، هو يواجه الجميع، عاريا من أي دعم جدي سوى من أنصاره الأوفياء في الشارع حيث لن يكون في استطاعتهم الصمود طويلا لعدم تمرسهم فيه وبسبب مواجهتهم لسلطة «ظالمة للطائفة»، على حد تعبير قيادي «مستقبلي»، مؤهلة لخوض مواجهة طويلة معهم ليس الحريري بقادر على التصدي لها، ناهيك عن رغبته بذلك. ثم أن خطورة تحريك الشارع (الذي لا يختزل إسم الحريري تحركاته الاحتجاجية) تتأتى من كون زعيم «المستقبل» تمكن من شن المعركة، لكنه قد يكون قاصرا عن خوضها مع الشوارع المذهبية الأخرى وهي أكثر متانة وقدرة على الضرب تحت الحزام إذا أرادت ذلك.
يعلم الحريري تماما محدودية قدرته على التغيير عبر ذلك، وهو ليس في حاجة الى العودة في الذاكرة الى حين تم إقصاؤه عن رئاسة الحكومة في كانون الثاني من العام 2011، عندما دخل الى البيت الأبيض رئيسا للحكومة وخرج منه سريعا خالي الوفاض و«رئيسا سابقا»، فكان أن حرك شارعه في شكل انفعالي، ولفترة محدودة، سرعان ما انكفأ بعدها..
ولعل أكثر ما يؤلم الحريري أنه رفض تشكيل حكومة تفتقد للميثاقية المسيحية، لكنه وجد نفسه بعدها، وهو «الزعيم الشرعي للسنَّة في لبنان»، خارج جنة الحكم! وقد يلجأ زعيم «المستقبل»، في المقابل، الى شهر سلاح الميثاقية نفسه لنزع الشرعية عن رئيس الحكومة المكلف الدكتور حسان دياب، وذلك عبر تعريته من تأييد الطائفة، وخاصة، من تأييد دار الفتوى التي تمكنت قبلها من إقصاء المهندس سمير الخطيب عن منافسة الحريري.
هنا، ثمة حديث كثير لدى أركان في التيار حول أفكار من شأنها أن تضع دياب في مواجهة مع تلك الدار، لكن، في المقابل، لا يبدي بعض قياديي «المستقبل» تفاؤلا في إمكانية خضوع دياب لأية رغبة، ومن بينها رغبة المفتي عبد اللطيف دريان، إن وجدت، في ترك مكانه على رأس الحكومة.
لكن دياب، الحديث في دهاليز السياسة، يسعى قدر الإمكان الى شراء الوقت، وهو سيحصل على تسهيل كبير من قبل الثنائي الشيعي كما من العهد لتشكيل حكومته قبل أن يحصل على ثقة البرلمان، ليذهب الى المفتي متسلحا بشرعية شعبية يواجه بها شرعية الطائفة.
في المقابل، لا يلعب عامل الوقت نفسه لصالح الحريري. ومع صباح كل يوم جديد، ستتعزز شرعية دياب، بينما لا يبدو أن ثمة معارضة دولية لتكليفه. لكن الحريري سيراهن على دعم خليجي معارض لتولية دياب. ويستشهد قيادي «المستقبل» بالحملة الاعلامية الخليجية الكبيرة التي تواجه دياب، الذي يراهن، في المقابل، على وساطة عمانية تقيه شر السقوط بعدما خرج بخطاب عالي النبرة وواثق من التأليف ومؤكد على الاستقلالية.
إلا ان المعارضة الخليجية لدياب لم تقدم جديّتها حتى اللحظة، ويتبدى مأزق الحريري من قلة الخيارات لديه وافتقاده للمبادرة في ظل أزمة معيشية كبيرة يعاني اللبنانيون منها باتوا يرغبون معها في حل قريب وتشكيل للحكومة يقيهم ما هو أسوأ. وهو ما يلعب أيضا لغير صالح الحريري.
مع اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول، حاول الحريري، المستهدف تحت شعار «كلن يعني كلن»، كسب الوقت على أمل أن يهدأ الشارع. بعد أيام، خرج هو وأركان السلطة بورقة اقتصادية جديرة بالاهتمام، لكنها لم تكن كذلك للثوار. دفع ذلك بالحريري بعدها بأيام الى تقديم استقالته من رئاسة الحكومة على أمل استعادة المبادرة من جديد بعد التفاوض من موقع قوة مؤازر للثورة. لكن إحباطه كان مزدوجا: فقد خرج من الحكم.. من دون كسب الشارع، حتى بات يعتبر الضحية الوحيدة لما جرى في البلاد.
وكان من دواعي أسفه أن الحراك نفسه قد أصبح يقارب الأمور بمنحى مختلف مع تولي دياب. وباتت تُطرح أسئلة في شارع الحراك من نوع: لما لا نعطي دياب فرصة؟ لماذا لا ننتظر تشكيل الحكومة قبل الحكم على الرجل؟ إلى متى سنبقى رفضيين؟ ما الخطأ في تسوية مرحلية مع السلطة؟
وبرغم ان الشارع، بمعظمه، لا يزال على رفضه لتولي دياب كونه جاء نتيجة تحاصص طائفي، كما انه كان قد غرف من السلطة مقدارا، إلا ان فارق الزخم البشري وطبيعة النبرة الاحتجاجية كانا ملحوظين في الايام الأخيرة، مقارنة مع الاعتراض على الأسماء الأخرى التي طرحت في السابق وخاصة إسم الوزير السابق محمد الصفدي.
يراقب «المستقبليون» كل ذلك بأسى. وبات البعض فيهم يردد في مجالسه الخاصة إن التيار يخوض اليوم معركة خاسرة لتنحية دياب. ويتخذ حديث البعض في التيار صراحة كبيرة عبر الإقرار بأن الأزمة لا تُختصر بمجرد إبعاد للحريري عن السلطة. إنها أزمة ذاتية في التيار نفسه بعد هفوات وأخطاء ترقى الى حد «جرائم» اقترفها البعض بحق تياره، أدت الى سقطات وضربات تلقاها التيار ودفعت به الى المُنحدر. طبعا، تشكل المؤامرة الإقليمية على الحريري أكثر العوامل سلبية، حسب وجهة النظر هذه، ذلك ان الواقع الإقليمي المتوائم مع المحلي في السلطة، قد آذيا الحريري. لا يهم هنا تمسك الأخصام به، هم يريدونه واجهة لهم في الحكم وحافظا للوحدة في الشارع، وصلة وصل مع الخارج. لكنهم، فعليا، أضروا به في زمن «الإحباط السنَّي» الذي جاء الحريري لمعالجته، فزاد إقصاء الممثل الأكبر للسنة عن الساحة، من مفاعيله.
الواقع أن الحريري دفع غاليا ثمن رهانات وتحالفات أجراها قبل نيف وسنوات ثلاث. لكن دقة الأمر تتمثل في أن الحريري الإبن يواجه مصائب أكبر من التي قارعها الأب، لكنه تعاطى معها بحنكة ودراية. ومع فارق القدرة الشخصية الذي يميل لصالح المُؤسس، يواجه الإبن واقعا محليا وإقليميا بالغ الصعوبة قد لا يكون معه مؤهلا للتصدي له. وربما كان من مصلحته الإنكفاء عن المشهد ومراقبة معاناة من أقصاه وهو يحاول تلقف كرة النار وحل الأزمات الشائكة في البلاد والتي تبدو مستعصية على العلاج. لكن السؤال الذي يؤرق الحريري سيتمحور حول قدرته على العودة، زعيما سنيَّا عبر مشروعية شعبية كما حصل في السابق، وكما حدث مع والده حين أُجبر على الابتعاد.
وعند سؤال قيادي «مستقبلي» يُعد من الصقور داخل التيار عن الأمر، يأتي الرد بتوصيف ما جرى بأنه «نكسة» تعرض لها الحريري و«المستقبل». والاولوية اليوم تتمثل في ربط الأمر بإعادة صورة التيار التي عُرف بها لكي يتمكن من تجاوز عثراته الداخلية. فالخطوة الأولى حسب وجهة النظر هذه هي في إعادة البناء من الداخل.
لكن مع التراجع التنظيمي معطوفا على افتقاد العمق الاقليمي الجدّي، وفي ظل بروز منافسين له على الساحة، سيواجه الحريري تحديا حقيقيا وامتحانا صعبا في سبيل عودته، في ظل خشية «مستقبلية» من أن يجد الحريري نفسه في المرحلة المقبلة أكثر وحدة وتجردا من أي دعم يؤهله الى عودة تشابه سابقاتها.