كتب ايلي الفرزلي في “الاخبار”:
ليس قطاع الاتصالات بحاجة إلى أدلة على حجم الفساد الذي يُغرقه. لكن ما يتكشّف، تباعاً، من مستندات تعود إلى سنوات خلت، يُظهر أن ذلك الفساد لا حدود له. في المستندات المقدّمة من «تاتش» إلى لجنة الاتصالات أدلّة واضحة على هدر بملايين الدولارات. يكفي أن استبدال شبكة الجيل الثاني في الشركة، حصل مرّتين خلال خمس سنوات، وبكلفة تراكمية. في المرة الأولى رسا العقد على 28 مليون دولار، لكنه لم ينته إلّا وقد دُفع 72 مليون دولار من المال العام. وفي المرة الثانية لم يكن هنالك حاجة إلى إخفاء الكلفة، فوصلت إلى 125 مليون دولار
لم تنته اكتشافات لجنة الاتصالات النيابية بعد. كمية المستندات التي حصلت عليها من شركتَي الخلوي ومن أوجيرو قد تحتاج إلى أشهر طويلة لكشف خباياها. لكن ما يُكتشف تباعاً يدل بوضوح على كيفية استغلال قطاع يُفترض أنه نفط لبنان، فإذ به يتحول إلى نفط المُمسكين بالوزارة وأزلامهم وأحزابهم.
ملف استبدال شبكة الجيل الثاني يشكل نموذجاً فاقعاً. منذ صار في لبنان شبكة خلوية في منتصف تسعينات القرن الماضي، وحتى عام 2012، لم تُحدّث شبكة الجيل الثاني الخاصة التي كانت ركّبتها «موتورولا» لمصلحة «ليبانسيل» آنذاك. لذلك، عندما تسلّم الوزير نقولا صحناوي وزارة الاتصالات، كان مشروع تطوير تلك الشبكة على رأس الأولويات. بمناقصة تمّت بلا منافسة فعلية، تمكّنت شركة ZTE الصينية من الفوز بمشروع استبدال الشبكة. قضى العقد بتركيب 993 محطة، بسعر 22.5 مليون دولار، يُضاف إليها 5 ملايين دولار نفقات تشغيلية. استدعيت الشركة لمفاوضتها على تفاصيل بعض الأعمال وأسعارها، لكنها لم تخرج من الوزارة إلا وصارت قيمة عقدها 33.5 مليون دولار. أضيفت 5 ملايين دولار إلى العقد تحت مُسمى «متغيرات». حجة الزيادة كانت أن أموراً في العقد لم تكن مسعّرة وهي مطلوبة، فتم الاتفاق على إضافتها. في تلك الظروف، عادة ما يتم اللجوء إلى أمرين: إما إعادة المناقصة طالما أن العارض الفائز لم يلتزم بمتطلبات العقد، أو يتحمل الفائز مسؤولية عدم تسعير بعض الأعمال المطلوبة، فتُعتبر تلقائياً كلفتها من ضمن السعر النهائي. لم يحصل لا هذا ولا وذاك. ولمن يذكر، تلك خطوة استدعت «احتفالاً» من الشركة. زفّت لموظفيها حينها الخبر بعنوان «Good News»، وأوضحت أنها تمكنت من الفوز بمشروع مع وزارة الاتصالات في لبنان لتطوير شبكة الجيل الثاني، ووقّعت عقداً يتضمن «أرباحاً عالية» («high net profit»).
مع ذلك، لم يمضِ عام إلا وقرّرت الوزارة توسيع الشبكة. كان المطلوب 500 محطة جديدة، لكن كلفتها بلغت 35 مليون دولار، أي أن مشروع التوسعة فاقت كلفته كلفة استبدال كل الشبكة القديمة، فكانت الكلفة الإجمالية لتحديث وتوسيع شبكة الجيل الثاني 72 مليون دولار.
لم يُنجَز المشروع تماماً قبل عام 2015. صارت كل شبكة الجيل الثاني محدّثة، لكن في عام 2017، حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ قرّر الوزير جمال الجراح استبدال الشبكة التي أنجزتها ZTE كلها بشبكة من صنع «هواوي». حجة الجرّاح كانت زيادة التغطية في المنازل. تلك التغطية كان يمكن تحسينها بطرق عدة، أبرزها وأكثرها شيوعاً هو زيادة محطات التقوية في الأماكن التي تحتاج إليها… لكن ذلك لم يحصل.
بحسب المراسلات التي أجريت بين إدارة «تاتش» والجرّاح، اقترحت الشركة عليه ثلاثة خيارات، أولها إضافة ألف محطة تقوية، مع الإبقاء على عمل المحطات بشكل مستقل (شبكات الجيل الثاني والثالث والرابع، تعمل بشكل مستقل)، وثانيها إضافة محطات التقوية، مع اعتماد تقنية Single Run التي تسمح بتشغيل شبكات متعدّدة موجودة في موقع واحد بالاعتماد على الموارد نفسها، (على سبيل المثال، يساهم تشغيل شبكتَي الجيل الثاني والثالث عبر هذه التقنية، بتوفير الطاقة وتوفير الإيجارات والكهرباء…). أما الخيار الثالث، الذي أعطته الشركة الأفضلية، فكان تحويل شبكة الجيل الثاني كلياً إلى هواوي، مقابل إعطاء 25 في المئة من الجيل الرابع لنوكيا، مع اعتماد تقنية Single Run.
وبالفعل، وافق الجراح على هذا الخيار، لكن بعد اجتماع عقدته «ميك 2» مع مستشار الوزير نبيل يموت وممثل عن هواوي وممثل عن نوكيا، راسلت «تاتش» الجرّاح مجدداً، مشيرة إلى أن هذه التقنية «لن تقدم أي قيمة مضافة للمشروع»، فتم الاكتفاء بنقل الشبكة من ZTE إلى Hwawei، بكلفة 18.5 مليون دولار، «بعد تخفيضه من 26.6 مليون دولار»، بحسب إشارة الشركة. لكن مع ذلك، فإن المفاجأة كانت في الكلفة النهائية للمشروع، والتي قُدِّرت بــ125 مليون دولار، 90 مليوناً للأعمال التقنية و35 مليوناً للأعمال المدنية.
لكن معدات شبكة ZTE التي سيتم استبدالها كانت لا تزال جديدة. تدرك «تاتش» ذلك جيداً، لكنها اكتفت بنقلها إلى المستودعات، ثم إضافة قيمتها إلى موجودات الشركة (قُدّر سعرها، في 30 أيلول 2007، بــ53 مليون دولار). تلك الموجودات تحوّلت اليوم إلى خردة، بما يعني حرفياً خسارة 53 مليون دولار، تضاف إلى الخسائر التي لحقت بالمالية العامة من جراء كلفتها الأصلية (72 مليون دولار)، ومن ثم من جرّاء استبدالها بـــ125 مليون دولار.
باختصار، كلّفت عملية تبديل شبكة الجيل الثاني ما بين عامي 2012 و2017 نحو 200 مليون دولار، علماً أن الشركتين تتجهان حالياً للتخلص من الجيل الثاني، لما يشكله وجوده من تكاليف إضافية، يمكن الاستغناء عنها عبر تحويل الاتصالات الصوتية إلى الجيل الثالث (مناطق كثيرة بدأت بالفعل تتم الاتصالات الصوتية فيها على تلك الشبكة). كما أنه بناءً على توصيات لجنة الاتصالات، وعلى مطالبات تقنية عديدة، يُفترض أن لا يتأخر الوقت قبل إعادة الاعتبار إلى تقنية Single Run، التي تخلّى عنها الجراح و»تاتش» لأسباب مجهولة.
كما في الجيل الثاني، كذلك في الجيل الثالث، الأموال العمومية ليست سوى سبب لمزيد من الصرف. في عام 2011، فازت شركة هواوي بالمناقصة التي أطلقها الوزير شربل نحاس لتأمين خدمة الجيل الثالث لمليون مشترك. العرض المقدّم منها كانت قيمته 25.6 مليون دولار.
في عام 2012، تقدمت الشركة من وزارة الاتصالات باعتراض، تشير فيه إلى أن قيمة العقد ليست عادلة. وبعد أخذ وردّ، وافق الوزير نقولا صحناوي على توقيع مذكرة تفاهم بين الشركة الصينية و«ميك 2»، توافق الأخيرة فيها على التخلي عن أجزاء من متطلبات العقد، مقابل الحصول من الشركة على قسيمة بقيمة 6 ملايين دولار (كلفة هذه المتطلبات تفوق 6 ملايين دولار ولذلك سعت الشركة للتخلص منها). لكن المفاجأة أنه بعد سبع سنوات، لم يتبين، من خلال المستندات التي قدمتها «ميك 2» إلى لجنة الاتصالات، أن هذا المبلغ قد استُعمل. كذلك تبين أن «تاتش» عادت ووقّعت مع «هواوي»، بعد سنة، مشروعاً جديداً لمتابعة جودة الخدمة وتفعيل أداء الشبكة، بقيمة 20.7 مليون دولار، بالرغم من أن عقد إنشاء الشبكة كان وُقِّع منذ عام فقط. وبالتالي، يكون تفعيل عمل الشبكة كلّف ما يقارب كلفة إنشائها بأكملها!
ليس هذا فحسب. في الفترة نفسها، عمدت «تاتش» إلى توقيع عقد ثالث مع هواوي يهدف إلى زيادة القدرة الاستيعابية للشبكة من مليون مشترك إلى 1.5 مليون مشترك. المفاجأة أن قيمة العقد بلغت 82 مليون دولار. أي أن شبكة تستوعب مليون مشترك كلّفت 25 مليون دولار، بينما توسيعها لتستوعب نصف مليون مشترك جديد كلّف ثلاثة أضعاف. أما مجموعة الكلفة الفعلية للشبكة، فوصل إلى 128.3 مليون دولار، تضاف إليها 6 ملايين دولار مجهولة المصير.