كتب نذير رضا في صحيفة الشرق الأوسط:
هشّمت الاحتجاجات التي اندلعت في لبنان في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حال الجمود السياسي الذي كان قائماً منذ العام 2014 مع دخول عاملين أساسيين، أولهما الأزمة الاقتصادية التي فتحت على مصراعيها، ولا أفق لإعادة تثبيتها، وثانيهما تثبيت المحتجين لمعادلة جديدة قوامها تشكيل معارضة من خارج النظام، ستلزم السلطة بإعادة إنتاج معارضة من داخل المؤسسات بعد تدجينها بفعل التسويات السياسية.
وتعد النتيجة الثانية أبرز ما أنتجته التحركات الاحتجاجية التي كشفت عن ثغرة أساسية في النظام السياسي القائم. فمنذ العام 2014، ثبتت التسويات بين الأفرقاء مبدأ الشراكة في داخل النظام، وتكرست في الانتخابات الرئاسية في 2016 وبلغت ذروتها في حكومة ما بعد الانتخابات النيابية 2018، حيث باتت الحكومة نسخة مصغرة عن البرلمان لجهة تمثيل القوى السياسية فيها بحسب حجمها في المجلس النيابي، وهو ما ألغى المبدأ الذي تقوم عليه الأنظمة البرلمانية الديمقراطية، لجهة وجود أكثرية تحكم، وأقلية تعارض. وعليه، لعب الشارع دور المعارضة الملغاة في داخل النظام، وفرض نفسه مراقباً وضاغطاً، ما أسفر عن إسقاط الحكومة في الشارع، وانسحاب قوى سياسية من المشهد في الحكومة التي يجري التحضير لتأليفها لتتحول فعلياً إلى صفوف المعارضة.
وفيما كرر «حزب القوات اللبنانية» رفضه للمشاركة في أي حكومة، دافعاً باتجاه تأليف حكومة من الاختصاصيين تلبي مطالب المنتفضين، وتنهض بالبلاد من أزماتها الاقتصادية والمالية، بقي الرئيس سعد الحريري على موقفه لجهة تأليف حكومة من الاختصاصيين، مدفوعاً بدعم من «تيار المستقبل»، بحيث يتعزز دور البرلمان في مراقبة الحكومة. وإثر فشل المشاورات لتشكيل حكومة من الوزن السياسي الثقيل، على غرار الحكومات السابقة، أعلن «التيار الوطني الحر» عن توجهه لعدم المشاركة في الحكومة، والانحياز إلى صفوف المعارضة، رغم أن رئيس الجمهورية ميشال عون، المؤسس لـ«التيار الوطني الحر» سيحتفظ بحصة له في الحكومة.
في المقابل، تنازلت كل القوى السياسية عن مطالبها بتشكيل حكومات تشبه النماذج السابقة، تحت ضغط الشارع وضغط الأزمات الاقتصادية، وهو تغيير أساسي تحقق في الأزمة الأخيرة، رغم أن حكومات لا تتضمن تمثيلاً سياسياً بالحد الأدنى ستواجه تحديات كثيرة في ظل التركيبة السياسية اللبنانية وتوزع القوى في البرلمان. فأي حكومة تؤلف على قاعدة الخصومة الكاملة مع القوى السياسية، من الصعب أن تحظى بثقة البرلمان، ومن الصعب أيضاً أن يوافق البرلمان على مشاريع قوانين تقترحها، ومن ضمنها مشروع موازنة المالية العامة، وهو واقع يعرفه المحتجون الذي يراهنون على تغيير في نتائج الانتخابات عبر المطالبة بانتخابات نيابية مبكرة.
وبينما يكافح الشارع للحفاظ على زخمه في الضغط لتحقيق مطالبه، يرزح السكان تحت ضغط اقتصادي كبير، يتمثل في إقفال الكثير من المؤسسات التي بلغ عددها في الشهر الأخير نحو 70 مؤسسة أبلغت وزارة العمل بالاستغناء عما يزيد على 1500 موظف، لترتفع نسبة البطالة، بحسب التقديرات، إلى 50 في المائة من القوى العاملة في البلاد.
وترافقت تلك التطورات مع تدني القدرة الشرائية وإجراءات مصرفية تواكب التحديات المستجدة، وأبرزها تراجع تدفق التحويلات الأجنبية والودائع الأجنبية المالية. وشهدت البلاد ندرة في توافر الدولار إثر إجراءات اتخذتها المصارف لتقليص التداول بالعملة الصعبة، وهو ما رفع سعر الدولار في السوق الموازية 25 في المائة من قيمته الفعلية، ما انعكس على أسعار السلع. وتفاوت ارتفاع الأسعار بين سلعة وأخرى، وبين تاجر وآخر. وبالمجمل ارتفعت أسعار بعض السلع بنسبة 40 – 60 في المائة، وأسعار أخرى بنسبة 100 في المائة. واستغل التجار الوضع الراهن في لبنان، حيث أقدم بعضهم على تبديل أسعار السلع مرات كثيرة خلال فترة الـ15 يوماً الأخيرة، ولم يعد يلتزم بعضهم بهوامش الأرباح، ما أسهم في تفلت الأسعار في السوق.
وارتفعت تكلفة الفوائد على الشركات من 7.5 إلى 12 في المائة، والرسوم على الدفع بالبطاقة الائتمانية، التي كانت تتراوح تكلفتها على المحال التجارية بين 0.85 و1.25 إلى 2 في المائة، ومن ثم فرض 3 في المائة كرسوم جمركية على مواد استهلاكية مستوردة، وفرض رسم جمركي تراوح بين 10 و20 في المائة على بعض المواد المستوردة الأخرى.
هذه الوقائع دفعت باتجاه شكل جديد من الحكم سيتمثل في الحكومة الجديدة التي ستتضمن اختصاصيين يتولون الحقائب الوزارية الأساسية ويساهمون في النهوض بالبلد، ويعزز وجودهم ثقة المجتمع الدولي بلبنان، تمهيداً لمرحلة أخرى في العام 2020 تحمل آمالاً كثيرة بالنسبة للبنانيين. لكن هذه الآمال ستكون مشروطة. فقد حدد المجتمع الدولي شكلها، إذ أكدت «مجموعة دعم لبنان» التي انعقدت في باريس في 11 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أن المحافظة على استقرار لبنان وأمنه واستقلاله السياسي تتطلب تشكيل حكومة فاعلة وذات صدقية وقادرة على الاستجابة لتطلعات جميع اللبنانيين، وتتوافر لها الإمكانيات لإطلاق حزمة الإصلاحات الاقتصادية، وأن تكون ملتزمة سياسة النأي بالنفس عن التوترات والأزمات الإقليمية. ودعت المجموعة إلى أن ترى هذه الحكومة النور في أسرع وقت.
وإلى جانب المساعدات العاجلة التي يمكن أن ترسل إلى حكومة موثوقة لتخفيف الأزمة الاقتصادية، ستدفع حكومة تطمئن المجتمع الدولي، إلى تنفيذ مقررات «سيدر» الذي سيضخ نحو 13 مليار دولار على شكل مشاريع متوسطة وبعيدة الأمد تعيد تشغيل العجلة الاقتصادية وتضخ أموالاً بالعملة الصعبة في البلاد.
الرهان الثاني في 2020 سيكون على الأرقام التي ستتمخض عن حفر أول بئر للغاز في البلوك رقم 4 في المياه الاقتصادية اللبنانية، حيث سيبدأ تحالف الشركات الثلاث (توتال الفرنسية وإيني الإيطالية ونوفاتيك الروسية) بحفرها مطلع العام، ومن المتوقع أن تصدر نتائجها بعد 60 يوماً. فوجود غاز أو نفط في المياه الاقتصادية اللبنانية، من شأنه أن يرفع قيمة السندات السيادية اللبنانية ويزيد ثقة المجتمع الدولي بلبنان، وهو ما يراهن عليه لبنان، بحسب ما تقول مصادر سياسية لـ«الشرق الأوسط».
أما أزمة وجود الدولار النقدي في الأسواق، فهي تحد آخر، لا يرتبط بالأزمات المحلية فقط، بل يتعداها إلى أزمات إقليمية. وتقول مصادر مصرفية إن العملة الصعبة الورقية «قليلة في الأسواق الآن»، وهناك «إجراءات استثنائية تتخذها المصارف، تتمثل في إعطاء الناس حاجاتها، وإتاحة المعاملات المصرفية عبر الشيكات والبطاقات الائتمانية»، لافتة إلى تحول الورقة النقدية بالعملة الصعبة (الدولار) إلى «سلعة يتم تداولها والاتجار بها عبر الصرافين بغياب رقابة قوانين حماية المستهلك». ولا تنفي المصادر أن تحول العملة الصعبة إلى سلعة، أدى إلى استفادة التجار السوريين منها عبر تهريبها إلى الداخل السوري الذي يعاني من أزمة الدولار إثر العقوبات عليه.
ورغم المخاوف من إجراءات مصرفية قاسية بحق المودعين، تنفي مصادر مصرفية ذلك، مؤكدة أن المصارف اللبنانية «تمتلك خارج لبنان 21 مليار دولار، بينها 9.5 مليار على شكل ودائع يمكن إحضارها كسيولة إلى البلاد، وقد طالبها حاكم مصرف لبنان بذلك لتعزيز الثقة بالقطاع المصرفي وزيادة الملاءة بالعملة الصعبة وضخها بالأسواق».
ويراهن اللبنانيون على تغييرات سياسية تعزز ثقة المجتمع الدولي بلبنان، لتغيير إجراءات اعتمدتها المصارف عموما وهي تدابير أكثر تشددا تمثلت في تقييد التحويلات إلى الخارج المشروطة بتوفر السيولة لدى المصرف والتوقيت الذي يحدده لإمكانية التنفيذ. وتم خفض السقوف بحيث لا تتجاوز 500 دولار أسبوعيا كحد أقصى، كما أن أغلب المصارف يمنع تنفيذ أي سحوبات من الودائع المربوطة بأجل قبل الاستحقاق، بعدما كان متاحاً التصرف بنسبة 10 في المائة من إجمالي المبلغ.