Site icon IMLebanon

خطوات على درب الإنقاذ: جراحات إقتصادية ومالية

كتب د. مازن ع. خطاب في “اللواء”:

يمرّ لبنان بمرحلة من «الركود التضخّمي» التي تشمل ارتفاع معدّل البطالة مع بطء في النمو الاقتصادي وارتفاع نسبة التضخم، ما يستدعي تعامل الدولة مع مشكلتين متميّزتين هما الركود والتضخم. وبالتالي تتطلّب أهمية المرحلة وضع برنامج حُكم إصلاحي، بناءً على سياسات تحمل ابعاداً اقتصادية وتنموية، ومالية ونقديّة، واجتماعيّة، وحوكَمة المؤسسات العامّة، تحت عنوان «انقاذي»، وصولاً الى التأسيس لمرحلة لاحقة توضع فيها رؤية شاملة وخطّة ثابتة يسير عليها المتعاقبون على السُّلطة، ما يحتاج الى تغيير في قاعدة العمل السياسي وتقديم طروحات جديدة.

إن حالة الركود التضخّمي التي تشهدها البلاد تتطلّب وضع هيكليّة اقتصاد إنتاجي يُحفّز النموّ الاقتصادي والاستقرار المعيشيّ عبر الاستثمار في القطاعات الانتاجيّة، منها الزراعة والصناعة والسياحة والتجارة، والاستثمارات المباشرة في قطاع النفط والغاز، ورفع مستوى الانتاج الوطني وتخفيف كلفته وحمايته من المنافسات الخارجية من خلال فرض الضرائب على السلع المستوردة، والابتعاد عن الريعيّة وسياسة الاقتراض العشوائي.

كذلك يجب اتّخاذ عددٍ من التدابير التنمويّة وفي طليعتها بناء معامل لإنتاج الكهرباء تكون قادرة على تغطية حاجة السوق اللبناني، وتطوير البنى التحتية التي تلعب دوراً مهماً في استقطاب الاستثمارات، وتحرير استيراد النفط من احتكارات الشركات الخاصة، على أن يتم شراء مشتقات النفط حصراً من قبل الدولة اللبنانية.

على أثر حالة الركود الاقتصادي، يُعاني لبنان من أزمة ماليّة حادّة تستدعي وضع وتنفيذ سياسة ماليّة تساعد على ترشيد الانفاق العام بالتوازي مع إعطاء الأولوية للإنفاق الاستثماري بهدف تعزيز الإنتاجية وتمويل مشاريع فعالة، وحصر عجز الموازنة، وتقليص مديونيّة الخزينة عبر خفض معدلات الفائدة المدفوعة للبنوك ودفعها الى قبول سندات خزينة بصفر فائدة لفترة زمنية وطلب فترة سماح على ديونها.

كذلك يجب الحد تدريجياً من التعاطي بالدولار والعمل على هيكلية تسعير السلع الاستهلاكية بالليرة اللبنانية بناء على قانون النقد والتسليف، مع تعزيز الإنتاج المحلي وزيادة صادرات البلاد.

كما يجب وقف مزاريب الهدر عبر تقويض التهرب الضريبي، واستعادة الأملاك البحرية والنهرية وإخضاعها للضريبة على الاملاك المبنية، وتضييق نطاق القطاع العام والغاء المؤسسات غير المنتجة، وتوقيف او تقليص الدعم المالي للهيئات والشركات والمشاريع والجمعيات غير الفاعلة والجمعيات الوهمية المتعاقدة، وتقليص بدلات إيجارات الوزارات والاستعاضة عنها ببناء مجمع خاص بالوزارات تملكه الدولة اللبنانيّة. إضافةً الى إعادة توزيع وتقليص عدد موظفي القطاع العام وتقليص عدد موظفي برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الوزارات.

وفي الشقّ النقدي، هناك ضرورة لوضع هندسات مالية حقيقية بعيدة عن تلك التي ساهمت في نمو أرباح المصارف بموجب الفوائد العالية التي دفعها مصرف لبنان على ودائع المصارف لديه، ما يستدعي النظر في إعادة هيكلة الدَّيْن من أجل ضمان استدامته. كذلك النظر في تخفيض الفائدة على الودائع في المصارف، والتي شجعت الناس على تجميد أموالهم، ممّا ادّى الى خفض الاستهلاك وتراجع الاستثمارات ما انعكس ارتفاعاً على أسعار الفائدة على القروض وكلفة الاستدانة والاستثمار.

يشهد لبنان ارتفاعاً في معدلات الفقر والبطالة حيثُ أصبحت شريحة واسعة من اللبنانيّين غير قادرة على تحمل تكاليف المعيشة الأساسية بما فيها المأكل والملبس والمسكن، ناهيكم عن تكاليف الرعاية الصحية وخدمات التعليم والمواصلات.

من هنا اهميّة وضع سياسات اجتماعيّة يأتي في طليعتها: (١) تأمين فرص العمل عبر الاستثمارات المُنتجة مع انشاء برنامج تأمين ضد البطالة؛ (٢) إقرار برنامج قروض صغيرة ميسّرة لتحفيز الاستثمار الفردي ضمن ما يُعرف بـ«التمويل المُتناهي الصغر» مباشرة من المصرف المركزي؛ (٣) توفير الدواء والعقاقير بأسعار مقبولة وتحرير استيرادها من احتكارات الشركات الخاصة؛ (٤) تأمين الرعاية الطبيّة مصحوبة بتغطية للاستشفاء؛ (٥) إقرار برنامج لضمان الشيخوخة والمعاشات التقاعديّة؛ (٦) إقرار سياسة الأمن الغذائي عبر انتاج ما يحتاجه الشعب من سلع وغذاء مع تفعيل منظومة حماية المستهلك ضدّ الغش والاستغلال؛ (٧) إقرار وتنفيذ خطّة استراتيجيّة النقل الحضري داخل المدن الكبرى، إضافة الى النقل البحري ما بين المُدُن الساحليّة؛ (٨) إقرار وتنفيذ خطّة استراتيجيّة لتطوير الجامعة الوطنية والمدارس الرسمية برنامجاً وحجراً وبشراً لاستيعاب أعداد التلاميذ كما ينبغي؛ (٩) إقرار آلية لمعالجة النفايات وإعادة تدوير ما أمكن بما يوفّر المال العام ويحافظ على البيئة وصحّة المواطنين؛ وغيرها.

تعتمد الدّول في نهضتها على اشراك أصحاب الاختصاص في صناعة السياسات وتسهيل ولوجهم الى مراكز صنع القرار، الّا انّه في لبنان لا يولج مراكز القرار والوظائف القيادية في السلطة سوى أصحاب الثروات والحظوات، الخارجين من الرّحم السّياسي المُسيطر، او المرتبطين به بشكل مباشر او مواربة. وهذا يعني ان نظام الحُكم في البلاد تحكمه مصالح الأغنياء والاقوياء، لا مصالح المواطنين والعمّال الذين يشكّلون الشريحة الأوسع من الشعب. أضف الى ذلك سرطان المُحاصصة الطائفية والمذهبيّة في توزيع المراكز العامّة، الذي ينهش جسد مؤسّسات الدولة المتهالك.

بيد أنّ إزالة هذا العائق وفتح المجال لأصحاب الخبرات والاختصاص من كافة شرائح المجتمع يبدأ بالانتقال الى نظام سياسي مدني يستند الى اعتماد الكفاءة معياراً موحداً في تولّي المناصب العامّة وبعيدا عن المحسوبية والمحاصصة السياسية. ويكون ذلك من خلال النقاط التالية: (١) تطبيق جميع البنود الإصلاحيّة في اتفاق الطائف بهدف الغاء الطائفيّة السياسيّة؛ (٢) عدم جواز الجمع بين النيابة والوزارة؛ (٣) حظر كل من يتولّى منصباً عاماً من التعاقد مع الدّولة مباشرة عبر عقود خدمات او مواد او سواها، أو بشكل غير مباشر عن طريق العقود الوكالة؛ و(٤) إقرار قانون ينظّم ويرعى قيام أحزاب على أسس وطنيّة.

إنّ نظم الإدارة والحوكمة السيئة هي واحدة من أسباب رئيسية لفشل الدول. وقد جرت العادة في لبنان أن يأتي كل وزير بخطّة عمل ومشاريع مختلفة عن سلفه، وقد يتعارض برنامج الخلف مع السلف في بعض الأحيان. وفي كلّ حال يستدعي ذلك وقتاً وجهداً لكي يضع الوزير الجديد خطّة عمله وتعبئة فريق العمل الوزاري باتجاهها بعد ان كانوا يعملون على غيرها مع السلف. كل ذلك بسبب غياب رؤية شاملة وخطّة ثابتة يسير عليها المتعاقبون على السُّلطة.

وبالتالي توجد حاجة مُلحّة لتفعيل التنمية والإصلاح والتطوير الإداري، حيث انّها نتاج العديد من العمليات طويلة الأجل والتي تنجم عن التخطيط السليم يتبعه تطبيق الآليات الإدارية الحديثة وتنفيذ الخطط بعناية. من هنا ضرورة إعادة انشاء وزارة قائمة بحد ذاتها تُعنى بالتصميم والتخطيط (كالتي أنشئت عام ١٩٥٤ والغيت عام ١٩٧٧)، وخاصة الخطط الطويلة الأجل، وضمان تطويرها واستمراريتها، بحيث لا نبدأ كل مرّة من الصفر مع كل وزير يستلم حقيبته الوزارية، مع تأسيس هيئة مختصّة بشؤون التصميم والتخطيط تُشكّل من القطاعين العام والخاص وتقترح جميع الامور التي يحتاج اليها الوطن.

إنّ غياب الشفافية والمحاسبة يشجعان على الفساد وهدر المال العام، وهما قوتان مدمرتان أشد المتألمين منهما هم الفقراء. وهما يبددان الثقة الضرورية بين المواطن والدولة لنجاح التنمية على الصعيد الوطني.

ومن هنا ضرورة مكافحة الفساد المالي والإداري واسترجاع المال العام المنهوب، من خلال إقرار الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، وانشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وتعديل قانون الاثراء غير المشروع، وإقرار قانون استرداد الأموال العامة المنهوبة والمهرّبة الى الخارج، وتفعيل قانون حق الوصول الى المعلومات، وتعديل قانون سريّة المصارف لرفع السرية طوعاً وبشكل كامل عن كلّ من يتقلد وظيفة عامّة، وإقرار قانون حماية كاشفي الفساد. والى حين جهوزية أُطُر مكافحة الفساد هذه، لا بدّ من فرض حجز احتياطي للأموال المنقولة وغير المنقولة لكل شخصية شغلت او تشغل موقعاً عاماً وتحوم حولها شبهات الفساد.

ولا يُمكن ضبط الفساد والهدر وكبح الانحطاط الحاصل الّا من خلال تفعيل المساءلة والمحاسبة – لا سيّما ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي – عبر تمكين المُكوّن القضائي من ممارسة استقلاليته التامّة، مع تمكين حكم القانون. ويكون ذلك عن طريق إقرار قانون استقلال السلطة القضائية، وإقرار قانون انشاء محكمة تُعنى بالجرائم المالية، وتفعيل دور المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.