كتب د.مصطفى علوش في “الجمهورية”:
«وينكر القَتَلةُ على القتلى الحق في حصانة أو حرمة تستقوي بشريعة ما، وهي ليست شريعة الحرب او النزاع القومي او الديني، السياسي التاريخي والأمني العسكري. ويفترضون انّ حكمهم المبرم لا يُستأنف، ولا يجوز عرضه على نظر هيئة تتوسّل الى حكمها بطرائق أكثر دقة من سابقاتها، وتشريعات أكثر إحاطة ومسؤولية، مثل تعريف الجرائم ضد الانسانية، والابادة، وانتهاك حقوق الانسان، والإرهاب، وهي تلك الشرع التي نشأت عبر الأمم المتحدة، غداة الحرب العالمية، وأوثقت بين القوانين المحلية والقوانين الدولية». (وضّاح شرارة من كتاب «أيام القتل العادي»)
ما هو واضح للعيان هو أنّ هاجس حماية حق الحياة ليس هماً نظرياً في عالمنا الثالث، فهو هاجس محصور بمَن حملوا هم الإنسان كقيمة بحد ذاتها في مواجهة منطق استسهال الموت.
لقد ولد «الاعلان العالمي لحقوق الانسان» بعد عشرات السنوات من الاجتهادات، بدأت في أواسط القرن التاسع عشر، وبنيت توصياته في معظمها على التجارب الإنسانية المؤلمة خلال الحروب، أهمها المحرقة الإنسانية في الحرب العالمية الثانية التي كانت الدافع وراء إطلاق هذا الإعلان في 10 كانون الأول 1948 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أساسه هو «الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم الثابتة بالحرية والعدل والسلام في العالم. لما كان تناسي حقوق الانسان وازدراؤها قد أفضيا الى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني، وكانت غاية ما يرنو إليه عامة البشر هو انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة. وقد أكد الإعلان الالتزام بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد وقدره بما للرجال والنساء من حقوق متساوية وحزمت أمرها على أن تندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن ترفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح».
وأتت المادة الثالثة لحقوق الإنسان كما يلي: «لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه».
هذه المادة كانت لتأكيد قدسية حياة الإنسان كفرد في مواجهة القرارات الجلفة والمستهترة التي تتخذها عادة «السلطة» في مسألة تدنيس هذه القدسية، من خلال قرارات الحرب وما يتبعها من أثمان تهدرها من خسارة في أرواح أتباعها في سبيل تدعيم سلطتها أو توسيعها.
لم تكن هذه الإشكالية مطروحة بنحو واضح في التاريخ، فقد كان موت الضحايا في الحرب أمراً طبيعياً، كما هي الحال بالنسبة الى مآسي الانسانية الناتجة منها. كانت الحرب تعتبر، مثلها مثل الكوارث الطبيعية والأوبئة، عوامل لا مردّ لها كالقضاء والقدر. وكانت قرارات الدخول في الحرب مرهونة برغبة السلطان الذي كان يقيّم المسألة فقط من ناحية النصر والهزيمة، من دون حسبان كم سيكلف هذا النصر او الهزيمة من حيوات.
ومع انّ الاعلان الدولي لحقوق الانسان كان قد أتى على يد الدول المنتصرة في الحرب، والتي شكلت لاحقاً نواة ما سمّي العالم الحر، ومن ثم شكلت مع الدول المهزومة مجموعة الدول الصناعية، فإنّ احترام هذه «السلطات» لمبدأ حق الحياة للفرد، حتى لأتباعها لم يأت إلّا في أواسط السبعينات، حين نجحت الحركة المدنية في إجبار سلطة الولايات المتحدة الاميركية على قبول الهزيمة في حرب فيتنام، بدلاً من ان تستمر في المكابرة بعد أن بلغت خسائرها أكثر من خمسين ألف، وسقط بضعة ملايين فيتنامي.
لقد فرضت نتائج هذه الحرب نمطاً جديداً في حساب السلطات في الدول الصناعية والديموقراطية، بحيث أصبح ضغط القوى المدنية هو العائق الأكبر في مواجهة النزق السلطوي في اتخاذ قرار الحرب، بعد أن أصبح حق الفرد في الحياة يتنازَع مع قدرة السلطة على استخدام حياة الناس في سبيل تدعيم سلطتها.
أمّا في العالم الثالث والعالم الشمولي والعالم العربي فإنّ الزمن لم يتغير، فقد استمرت ثقافة استسهال الموت هي السائدة في قرارات أصحاب السلطة في الحرب، واستمرت الشعارات التي تشرّع انتهاك حقوق الإنسان من اجل أهداف السلطة، وهذه ذات الشعارات التي استخدمت بمكر مطلق باسم القومية العربية والاشتراكية، وفي أكثر من بلد عربي انتهكت حقوق الإنسان العربي باسم الدين والجهاد والمنعة والحرية. وفي النهاية بقي عالمنا يخوض حروبه بمنطق العالم القديم، وهو قدرته على حشد أكبر عدد من الأفراد المستعدّين للتخلي عن حقهم في الحياة طوعاً، أو لسلبهم حقهم في الحياة قسراً، وذلك لعدم قدرتهم على الاحتجاج.
الاشكالية المطروحة الآن في منطق النزاع القائم في المنطقة هو المواجهة بين جبروت القدرة على تقديم قوافل الشهداء من دون حساب أو محاسبة من جهة، وضعف منطق اعتبار الحياة حقاً مقدساً للناس مع قدرة الناس على محاسبة السلطة التي تستهتر بهذا الحق من جهة أخرى.
وهذا يعني عملياً انّ تدعيم قوة منظومة «استسهال الموت» يستدعي استمرار عدم قدرة المجتمع المدني على المحاسبة وتدنّي قدرة المواطن الفرد على المشاركة في قرار السلطة، وهذا يعني أيضاً غياب الديموقراطية وانعدام النمو. المصيبة في كل ذلك هي أنّ «القوى الثورية» في مجتمعاتنا لا تزال تقدّس منطق استسهال الموت، معتبرة أنها صاحبة تجربة «رائدة» لا مثيل لها في التاريخ، لمجرد انها تعتمد «إيديولوجية» مختلفة عن سابقاتها، مما يسوّغ لها استخدام الأساليب ذاتها لعقائد بائدة، انتهت جميعها الى كوارث تاريخية كبرى.
لماذا هذا الكلام الآن؟
لأنّ الواضح اليوم في خصوص ما يحدث في لبنان، أنّ الطرف المُمسك والمتمسّك بالسلطة لا يزال يراهن على قدرته على تحمّل تبعات الكارثة، مع كل ما تحمله من مآس واحتمال العنف وسقوط الضحايا، وتحميلها أيضاً على ظهر من لا يشاركه في رؤياه. فدرب السلامة معروف وهو بإعلان البراءة من المحاور، وإقناع العالم القادر على مَد يد العون للبنان بأنّ هذا العون لن يضيع، لا بصفقات فاسدة، ولا بمغامرات عسكرية طائشة، في ظل نزاع أُخذ فيه لبنان كرهينة مخطوفة بين طمع وشهوة المال والسلطة، ونزق من يَستسهلون موت البشر وخراب بيوتهم، لخدمة أحلام المأخوذين بالأساطير في لبنان وسوريا والعراق واليمن.