Site icon IMLebanon

ولّت أيام البراشينغ والخدم والسومون سيدتي

كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:

 

“إصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب ” كان هذا شعار اللبناني المحب للحياة والبذخ والتفشيخ. لا يحسب حساب الغد، يأمل دائما ببصيص ضوء يحمله الغيب حتى في أحلك الظروف. لكن حدث ان استفاق اللبناني يوماً ليجد نفسه وقد صار على عتبة الفقر، وإن كان لا يزال يملك، على الورق، ما يكفيه لعيش كريم، يتخبط بأزمة مالية اقتصادية معيشية تفوق كل ما عاشه شدة في تاريخه الطويل الحافل بالأزمات والشدائد، أزمة فرضت عليه تغيير أسلوب حياته ليصمد في وجهها بكرامة.
اعتاد اللبناني العيش “على البركة” و لم يفكر يوما بتدوين او جدولة ما ينفق، كانت كل قروشه بيضاء بدعم من نظام مصرفي عالي الفوائد، لكنه فجأة وفي الأيام السوداء التي فرضتها عليه المصارف ذاتها والنظام الاقتصادي المتهالك، افتقد القرش الأبيض. هو الذي كان يظن نفسه متوسط الحال، مستوراً مجبور الخاطر، بات مضطراً للبحث عن طرق يوفر فيها ما أمكن من ماله ليتمكن من الثبات في وجه أزمة عاصفة رعناء تتهدد حياته ومستقبله ومستقبل عائلته. كثيرة هي الحكايات التي يرويها اللبنانيون عن واقع حالهم اليوم وسعيهم المحموم لتوفير قرش بات الحصول عليه مهمة شاقة أو مستحيلة.

بعد انقضاء الأسبوعيين الأولين من الثورة او من انفجار ازمة المصارف بتعبير أدق جمع فادي وهو رجل ستيني ميسور الحال، بالمبدأ، عائلته ورسم لهم خارطة طريق بحسب قوله لأسلوب حياة جديد يأخذ بالاعتبار الوضع المالي الكارثي للبلد في انتظار ما سيكون…خارطة الطريق التي اعتمدها فادي منذ البداية عن تصور وتصميم، فرضتها الظروف على الجميع خطوة تلو الأخرى وفرض التغيير نفسه عليهم ولو جاء على خلاف التغيير الذي وعدوا به وهللوا له.

خريطة طريق اقتصادية

الخطة بسيطة تقضي بتقليص مصاريف الكماليات الى أقل من النصف ليتمكن من الحفاظ على الأساسيات ولو مع شد الحزام قليلاً. ولكن إذا كانت خطته قد نجحت في الحفاظ على الضروريات مع ما يجنيه شهريا فإن جاره جوزيف المصور اضطر الى مد اليد الى الخرج كما يقال وبدأ يتقنن حتى في الخبز اليومي لعائلته. بين هذين النقيضين، تفنن اللبنانيون في ابتكار الحلول التي تمكنهم من إمساك الثور من قرنيه ليتمكنوا من تسديد كل ما يتوجب عليهم بالقليل الذي ما زالوا يقبضونه او تمنّ به عليهم المصارف اسبوعياً.

عشاء الأعياد لا مفر منه، فـ “جَمعة” العائلة هي القيمة الوحيدة المتبقية عند اللبنانيين في زمن تتفكك فيه كل القيم ولا تزال رمز التضامن الذي يتمسكون به ويحتاجونه في هذه الأيام الصعبة. ولكن مائدة العيد قلت اصنافها وتراجعت نوعيتها وغابت عنها الأصناف المترفة، فشرحات السومون الباهظة الثمن حلت محلها فتات السومون وفضلاته المحبوسة في كيس وعوضت شرحات قشقوان الغنم عن الـ brie وال caprice des Dieux.

واتساب يغني عن هدية

ولكن إذا كانت مائدة العيد لم تغب عن معظم العائلات، فالهدايا تراجعت بشكل ملحوظ وفق كل التقارير الاقتصادية. وحدهم الصغار كانت هداياهم جاهزة اما الأكبر سنا فهديتهم مؤجلة حتى مواسم الـ sale أو الى ما بعد تحسن الأحوال. وزيارات المعايدة التي كان اللبناني ملزماً بها استبدلها بتهنئة جاهزة عبر واتساب سريع يغني عن اتصال طويل قد يستنزف دولارات التشريج الثمينة.

سفرة رأس السنة التي اعتادها اللبناني منذ بضع سنوات حيث كان يخطف رجله الى اسطنبول او شرم الشيخ، باتت اليوم ذكرى حلوة وحلم يبقى في البال ربما للسنوات القادمة. بدلاً منها سيسهر الكثيرون أمام شاشات ينتظرون أن تكشف لهم ما يخفيه المستقبل أو يتأثرون أمام مآس تعرضها شاكرين ربهم على حالهم على اساس من يرى مصيبة سواه تهون مصيبته. أما المتحمسون للسهر فقد حجزوا في مطاعم متعثرة كسّرت اسعارها علها تتمكن من اجتذاب ساهرين يؤمنوا لها ما يسد نصف رواتب موظفيها وعمالها.

التقشف ضيف ثقيل في كل بيت

بعيداً من العيد، حل التقشف ضيفاً ثقيلاً في كل بيت، و تحمّل عبئه الأكبر الأهل الذين حاولوا بكل الطرق إبعاد شبحه عن أبنائهم. فأبناء الحرب الأهلية لم يشأوا أن يعيش احفادهم ما عانوه خلالها من قلة وضيق وافتقاد لمواد اساسية. ولكن محاولاتهم لم تنجح في إبعاد الكأس عن الأبناء فالأزمة انعكست على الجميع كباراً وصغاراً.

تروي سلام وهي ام لولدين يصطحبهما الأوتوكار يوميا الى المدرسة أنها حين طولبت بتسديد قسط الأوتوكار الشهري وجدت نفسها مضطرة للانتقال الى منزل والدتها القريب من المدرسة لتمضي فيه بحر الأسبوع ليتمكن أولادها من الذهاب الى المدرسة مشياً وتوفير قسط الأوتوكار علها بذلك تتمكن من تخصيص المبلغ لتسديد جزء من القسط المدرسي الذي لا مفر منه. اما ميمو التي كانت تردد دائماً “ببيع دماتي حتى علّم ولادي”. قد نشّف دمها هذه الأيام ولم تعد تدري كيف بإمكانها أن تخفض مصروف عائلتها أكثر بعد لدفع أقساط أبنائها في ظل أزمة سببها مسؤولون بلا دم.

فرنسوا الذي أراح باله سابقا باعتماد نظام التاكسي لبناته في “روحاتهن ومجياتهن ” الى الجامعة وفي مشاويرهن وكان يتباهى بذلك، وجد أن ” السرفيس” كويّس ورخيّص في الزمن الصعب، فقام بنفسه بمرافقتهن الى الطريق العام ليشرح لهن كيف ينتظرن السرفيس وكيف يوقفنه ويراقبن سائقه مع لمحة عن خطوط سيره الأساسية. هو الذي كان يهوى التفشيخ ويحب “تبييض وجهه” امام الجميع وجد نفسه مضطرا “انو يزمّا “الى ابعد الحدود حتى مع بناته.

ربات البيوت أباطرة التوفير

فزمن التفشيخ ولى كما يؤكد الجميع والبهورة وكبّ المال يميناً و يساراً التي كان يتباهى بها اللبناني انقلبت الى حرص وتدبير. ومن أقدر من ربات البيوت على التدبير حين تدعو الحاجة؟

نعمت التي اعتادت إجراء صورة شعاعية للثدي في كل عام مع انطلاقة حملة الكشف المبكر عن سرطان الثدي تغاضت هذا العام عن القيام بها فهي مكلفة حتى مع التخفيضات التي تطالها أثناء الحملة وهي شبه متأكدة أن السرطان لن يغافلها هذا العام وأولادها أحق بالمبلغ. ونعمت التي تشبه غالبية أمهات لبنان لا ترضى بأن ينقص شيء من الأكل عن عائلتها فالطبخة مؤمنة يومياً واليخاني “مبروكة ” تطعم كل العائلة وكذلك الرز بحليب والجيلو والكايك، اما الديليفري وسندويشات الطاووق والفاهيتا والبيتزا الكبيرة التي كان الشباب يستحلونها مع أصدقائهم في الجلسات المسائية فممنوعة منعاً باتاً إلا عند الحشرة. فعرايس اللبنة والبيكون المسخن أفضل لوجبات المساء، والبوشار يغني عن البزورات.

إذا كانت نعمت قد استغنت عن صورة الثدي الضرورية، فباسكال التي اعتادت ان تزور الـ “كوافور” اسبوعيا للبراشينغ والصبغة، باتت تشد شعرها الى الخلف وتعتمد الصبغة المنزلية و إن جاء لونها مختلفا عما تأمله. اما شقيقتها فباتت تترك الأبيض ينمو في شعرها حتى يصبح غير مقبول على حد قولها قبل ان تقصد المزين للصبغة. والاثنتان لا تخجلان من القول إن زيارة المانيكوريست الأسبوعية صارت لوكس لا يأبهن لها. “ومين إلو نفس يفكّر بالضفير هالإيام؟”. وهو كلام صحيح أصلاً اذا اعتبرنا ان كثيرات من سيدات لبنان استغنين عن استقدام الـ femme de menage أسبوعياً ولم يعدن يلجأن الى خدماتها إلا عند الضرورة ورجعن الى ممارسة الأعمال المنزلية بأنفسهن. فالدولار عزيز والأجدى أن تستفيد منه العائلة على ان يخرج الى بنغلادش او اثيوبيا (كما أوصانا وزير العمل) وحتى تشغيل الغسالة والجلاية والنشافة بات يخضع لحسابات التقنين ولا يتم تشغيل هذه الأدوات المكلفة الا بعد ان تمتلئ الى الشفة ففاتورة الكهرباء كما الموتور موجعة تكسر الظهر هذا إن تمكن رب البيت من دفعها بنصف الراتب الذي يقبضه.

تطول لائحة التوفير او التدبير التي صارت المرأة اللبنانية تهوى التفنن بها. فزيارة السوبر ماركت باتت مثل الذهاب الى الجبهة بحاجة الى استراتيجيا وتخطيط للخروج بأقل أضرار ممكنة. هنا ممنوع على ربة العائلة شراء اي شيء لا يخضع لتخفيضات فالبحث عن العروضات موهبة يجب التمرس بها في زمن الأزمات وكذلك السعي وراء الأصناف اللبنانية الصنع والعبوات التوفيرية الكبيرة. Buy one get one free هو شعار المرحلة لا سيما إذا تم تطبيقه على الاصناف المترفة. الأساسيات هي المطلوبة فقط وبعض الكماليات التي باتت من الأساسيات ( حتى ولو لحقتها ضرائب موازنة 2019 السعيدة الذكر). الآلة الحاسبة هي الحسيب و الرقيب في مشوار السوبر ماركت قادرة على كبح أي إنفاق يتخطى الميزانية الموضوعة.

الخضار والفاكهة لها استراتيجيتها الخاصة في زمن الأزمة ولها أربابها الذين باتوا يقصدون أسواق الخضار الشعبية (في صبرا او الضاحية ) للحصول عليها بأفضل الأسعار وكل الذين كانوا يتكبرون ويتجبرون سابقاً على تلك الأماكن وجدوا أنفسهم مضطرين لأن يقصدوها مع جيران لهم محترفين اكتشفوا فضائلها قبل الأزمة بسنوات.

جيل الثورة يتضامن مع اهله

مروان وزملاؤه من الشبان الجامعيين طالتهم الأزمة بدورهم والخرجية الأسبوعية التي كانوا ينالونها من الأهل تراجعت الى النصف او أقل وترافقت مع لازمة يومية يرددها الأب كلما همّ أحدهم بالمطالبة بزيادة الخرجية: بدنا نعيشكن، بدنا نطعميكن، بدنا ندفعلكم القسوطات… تضامناً مع أهله قصد مروان شركة الخلوي التي يتعامل معها وألغى له ولجميع أفراد العائلة كل الخدمات الهاتفية غير الضرورية التي تساهم في رفع الفاتورة الشهرية وأبقى على الضروريات فقط: تركتُ الانترنت والتخابر فقط يقول فانخفضت فاتورة كل منا حوالى 20% وإذا ما حسبتها على خمسة اشخاص تصبح حرزانة. ويضيف ضاحكاً أن والدته التي كانت تخجل من استخدام الواتس اب المجاني في اتصالاتها المهنية لم تعد تستخدم سواه اليوم وكأنها تريد الانتقام منه لأنه كان شرارة انطلاق الأزمة.

الضهرات و سهرات المطاعم والنايتس لم تلغ كليا عند الشباب والصبايا و لكن تم اختصارها كماً ونوعاً. فالسهرة باتت تقتصر على كأس مشروب او walk in في الملهى لا يدفعون مقابله الا مبلغاً زهيداً. اما العشاء وتنزيل الأصناف على الطاولة فقد نسوا أمره. تأقلموا مع الأزمة وشعروا مع الأهل لكن يبقى لشبابهم حق عليهم. يقول جورجيو وهو شاب يعمل “بار تندر”: ما زلنا نستقبل ليلاً مجموعات الشباب بالأعداد نفسها لكن فاتورتهم هي التي انخفضت وفي جردة بسيطة لما يربحه المحل نجد أننا بتنا على شفير الخسارة لا الربح.

أما جاد فيروي انعكاس الأزمة عليه قائلا: بكزدر بسيارتي داخل المنطقة وحين أرى مؤشر البنزين قد اقترب من الأحمر أبقى في البيت ” متل التوتو” بانتظار موعد الخرجية المقبل ما يذكر بأغنية “تنكة تنكة” التي كتبها وسيم طبارة لرينيه بندلي (المتوفي قبل أيام).

هذا غيض من فيض أساليب الاقتصاد والتوفير التي بات اللبنانيون يلجأون إليها في زمن لا يعرفون فيه ماذا يخبئ لهم فيه الغد..ففي بلد بلغ معدل النمو فيه صفر% مع بداية العام 2019 ولا شك بات نموا سلبياً مع تفاقم الأزمة واندلاع ثورة 17 تشرين الأول وفي بلد انخفض تصنيفه الائتماني وارتفعت قيمة ديونه وصارت خدمة الدين وحدها تستنزف حوالى 44،2 من الإيرادات العامة، في بلد ازدادت نسبة التضخم فيه وبات حجم اقتصاده الصغير المتهالك لا يتناسب مع احتياجات الناس ومستوى حياتهم ومتطلباتهم يتساءل اللبناني بخوف ماذا بعد؟ هل يكفي تغيير اسلوب حياته ليتمكن من مواجهة الأزمة؟ وهل يكون التغيير دائماَ بعد أن خسر وما زال نسبة ليست بالقليلة من قيمة ودائعه؟ والى متى يلهث خلف ليرة ( أو دولار) لا تنفك تنزلق من بين اصابعه؟