بات معظم الذين يتابعون الشأن اللبناني على دراية أن هذا البلد لا يُحكم من فريق دون آخر، لكن الأهمّ أيضاً أنه لا يستطيع العيش من دون المظلتين العربية والدولية، وذلك بحكم علاقاته الخارجيّة وموقعه الجغرافي ووجوده على خطوط النار.
هذا في علم السياسة، أما في الوقائع، فإن كل فريق حاول على طريقته أخذ لبنان إلى المحور الذي يريده، بينما كانت السياسة الخارجية تجلب الويلات إلى بلد الأرز أحياناً.
وأمام اشتعال الثورات العربية في تونس واليمن ومصر وسوريا أخيراً، لم يكن أمام قادة لبنان إلاّ الإجتماع في قصر بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية آنذاك العماد ميشال سليمان العام 2012، لتقرّ هيئة الحوار التي شارك فيها الرئيس ميشال عون (بصفته رئيس تكتل “التغيير والإصلاح”) “إعلان بعبدا” الذي نصّ في بنده الـ12 على “تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليميّة والدولية”.
وبما أن كل وزراء الخارجية منذ العام 2005 كانوا من حصة حركة “أمل” وموالين للمحور السوري- الإيراني، إلا أن البعض توقّع أن يُحدث تولي جبران باسيل وزارة الخارجية في حكومة الرئيس تمام سلام نقلة نوعية على صعيد السياسة الخارجية، وخصوصاً لناحية عدم الإلتصاق بالمحور الإيراني. لكن ما حدث كان مغايراً تماماً للتوقعات، إذ إن باسيل أخذ يزايد في دفاعه عن سياسات “حزب الله” والنظام السوري ضارباً بعرض الحائط مصالح لبنان الخارجية مع الغرب ومع الدول الخليجية.
تداعيات موقف باسيل
وأحدث باسيل أول انفجار في العلاقات اللبنانية – العربية في شباط 2015، فبعد حادثة حرق السفارة السعودية في إيران، عقد وزراء خارجية الدول العربية إجتماعاً لإدانة الحادثة، وخرق لبنان وحيداً هذا الإجماع بعد تصويت العراق لصالح الإدانة، حين قرّر باسيل عدم التصويت إلى جانب الإجماع العربي تحت شعار “النأي بالنفس”.
ويرى من عايش تلك المرحلة أن هذا الأمر كانت له تداعيات خطيرة على العلاقات اللبنانية – العربية، إذ أوقفت الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية مساعداتها للبنان وطلبت من رعاياها المغادرة، وساهم ذلك بضرب أهم قطاع لبناني وهو قطاع السياحة، ووصلت الأمور إلى حدّ تهديد اللبنانيين الذين يعملون في الخليج بلقمة عيشهم.
كل هذا الضرر الذي لحق بلبنان لم يمنع الخارجية اللبنانية بقيادة باسيل من استمرار تغطيتها لسياسة “حزب الله” التي أضرّت بالمصلحة اللبنانية. فأمام مشهد تدخل “الحزب” في سياسة الدول الخليجية وتهديد أمنها، وقفت “الخارجية” من دون أي إدانة، خصوصاً بعد خطابات الأمين العام لـ”الحزب” السيد حسن نصرالله التهجميّة ضد العرب وتهديده مصالح لبنان العليا.
ويذكر الجميع مقابلة باسيل الشهيرة في 22 أيلول من العام الماضي مع قناة BBC عندما دافع بشراسة عن “حزب الله” متناسياً أنه وزير خارجية كل لبنان وليس “الحزب”، ومُعرّضاً مصالح الدولة اللبنانية للخطر خصوصاً بعد الحديث عن فرض عقوبات أميركية على بلد أوصله سياسيوه إلى الإنهيار.
وفي منظار من تصدّوا لسياسة باسيل الخارجية في تلك المرحلة، أنه “من حق أي لبناني أن يدافع عن فريق داخلي، لكن “حزب الله” خرج عن الإجماع الداخلي وبات يطبق سياسات إيران في المنطقة، ولم يكلفه أحد من اللبنانيين الذهاب والقتال في سوريا واليمن والعراق وضد الدول الخليجية”.
وفي تلك المقابلة الشهيرة، أعاد باسيل التأكيد على علاقته مع “حزب الله” وربط هذه العلاقة بمعناها الوطني، أي أنه أعطى شرعية رسمية لعمل “الحزب”، مؤكداً إلتصاقه به وعدم قدرة أحد على فصله عنه. واللافت أن باسيل شدد على أن من يريد إعطاء أموال للبنان مقابل أن يفرض علينا تغيير سياستنا من “حزب الله” فهذا لن يحصل… “ولا نريد أموالاً مشروطة بخطوات سياسية” متصلة بالحزب.
وداع ببصمة سلبية
ويلفت من يتابع عملية تأليف الحكومة الحالية إلى أن “فريق العهد و”8 آذار” يركضون اليوم من أجل تأمين مساعدات أميركية وغربية وعربية لإنقاذ الوضع الإقتصادي بعدما أوصلت سياستهم لبنان إلى ما يشبه الحصار والعزلة، في حين يفاخرون أنهم إختاروا الدكتور حسان دياب لرئاسة الوزراء لأنه مقرّب من الأميركيين ودكتور في الجامعة الأميركية في بيروت”.
أبى باسيل أن يودّع “الخارجية” بعد الثورة الشعبيّة إلا بترك بصمة سلبيّة أخرى، فكانت إجتماعات وزراء خارجية الدول العربية الحدث، حيث دعا باسيل في 18 كانون الثاني 2019 خلال الإجتماع الوزاري العربي، الذي عُقد في بيروت قبل القمة العربية التنموية الإقتصادية والإجتماعية، لإعادة سوريا الأسد إلى جامعة الدول العربية، معتبراً أن غيابها يشكل “الفجوة الأكبر” في القمة.
كذلك كرر باسيل خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عقد في القاهرة في تشرين الأول الماضي هذه الدعوة، مطبقاً سياسة نصرالله الجديدة في جرّ الدولة اللبنانية إلى التطبيع مع النظام السوري، حينها إستضاف نصرالله باسيل من ثمّ رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية لوضعهما في صورة التوجّه التطبيعي الجديد.
كل تلك السياسات التي اتبعها باسيل حسب خصومه، وضعت لبنان في حضن “المحور الإيراني”، ما نتج عنه إستياء عربي ودولي يخالف تقاليد السياسة اللبنانية التي تقوم على الحياد الإيجابي، وهذا الأمر يتطلب إهتماماً بالغاً بمن سيتولى حقيبة الخارجية التي تدخل في صلب مواجهة الأزمة المستفحلة في لبنان.
ومن البديهي، بحسب معظم المسؤولين، أن لبنان لا يستطيع أن يخرج من الإنهيار الذي وصل إليه من دون مساعدة أميركية وأوروبية وعربية، وبالتالي، فإن السلوك الخارجي السابق ساهم في ضرب علاقات لبنان الدولية، فيما دول محور الممانعة غير قادرة على تأمين أدنى متطلبات شعوبها. من هنا فإن أغلب الظنّ أنّ إعادة لبنان إلى “العصر الحجري” سيكون على أيدي هذا المحور قبل سواه، خصوصاً أن نصرالله أعلن بالأمس الحرب العسكرية على الوجود العسكري الأميركي في المنطقة… وأيضاً من دون تفويض لبناني له.